
دخول الشتاء على استحياء هذه الأيام ومغازلته لقلوبنا الجافة بليالي (نسيمها من نسيم الجنة) حرَرّ حذاء المشي من قيده في شنطة السيارة. انتهيت من موعد مسائي سريع وعوضاً عن الرجوع للبيت توقفت عند (الممشى) المفضل لي حتى لا أضيع على نفسي فرصة العثور على رياض من النوع الذي تغنى به بدر بن عبدالمحسن..
ممرّ طويل يخترق مجموعة من البيوت، تحفه الأشجار من الجانبين و تتخذه القطط أمانها وبيتها.. أحب فيه هويّاته المتعددة فهو مسار رياضي للمشاة والعدائين، ملجأ للقطط، ممرّ للعشاق، نقطة تجمع لأعراق متنوعة ومعرض عمارة يفتح عينيك على وجه مختلف لبيوت الرياض وأحيانًا ساحة عرض لسيارات كلاسيكية ..
المشي فيه يعيدني لعاداتي المفضلة في المشي؛ المشي وحيدة بصحبة أفكاري ، المشي السريع بذهن شارد حتى تقف في وجهي شجرة أو عمود إنارة، المشي دون همّ قتل السعرات الحرارية أو تسجيل رقم قياسي على التطبيقات الرياضية المحفزة وأخيراً يعيدني لنفسي الحكائة التي تستمتع بخلق القصص والاستطراد في التفاصيل عن كل ماحولها حجارة كانت أو بشر..
حين أمشي معي أحب أن أحافظ على قداسة اللحظة فلا أمنح أذني لقائمة أغاني أو لثرثرة هاتف نقال بل أمنحها لكل القصص من حولها. أقف عند النافذة التي أغلقها أصحابها بساتر من الحديد وأتخيل شكل العائلة خلف الحديد وشكل مخاوفهم من المارة و توجسهم من الطريق! أتأمل العاملة الآسيوية التي تدندن للطفل بصحبتها أغنية من ارتجالها عن (البقالة ) التي يتجهون لها قبل أن تقف لتحيي أحد سائقي الحي وأقف بدوري التربوي وتخصصي الذي أكسبني لعنة المعرفة وهلع المجهول وأتساءل ماذا لو ؟! لو طويلة وعريضة ومحفوفة بنظريات التحليل النفسي والنمذجة والتنشئة و أساليب المعاملة الوالدية ! تقطع مخاوفي امرأة حامل بصحبة طفل يقود دراجة ويشتكي من نفاد شحن هاتفه النقال ولا يبدو على الأم أي نوايا للاستجابة له ولا لهاتفه! مادامت الأمهات يمشين بطمأنينة ويعبرن كل الأطفال والعاملات والسائقين والسيارات المتهورة ومحلات البقالة دون هلع فيجدر بي العمل على استعادة ضبط مصنعي الداخلي لعلي أتخلص من الحرص الزائد. أحاول أن أصحب ذهني وأفكاري بعيداً عن طفل البقالة وطفل الدراجة و أكلفني بمهمة إحصاء النوافذ التي تركها أصحابها كما هي حرة طليقة فلم يقيدوها بساتر من حديد ولم يغطوا وجهها بستارة من الدانتيل. تنتهي الاحصائية بنافذة واحدة فقط أطيل الوقوف تحتها علّها تشي لي بسرها لكني أتخلى عن فضول المحقق وروح الحكاء ما إن ينبح كلب في الداخل .. ابتسم للعمال الخمسة الذين يفترشون الأرض المجاورة للمسجد و يتشاركون فول ومطبق وأكواب شاي بالحليب، هل جمعتهم (قطة) تخفف عن كاهل الواحد منهم العبء المادي لوجبة كاملة؟ أم هربوا من ضيق الغرفة لرحابة الشارع؟ أو ببساطة توجد في قواميسهم مرادفات لعبارة من نوع ( كل مشروك مبروك)؟ بالمقابل أمام كل بيت على جنبات ممر المشي يقف مغترب عن وطنه وأهله يحرس ما خلف الأبواب ويغسل السيارات ويتناول (فوله) وحيداً. أيهم أكثر سعادة من ينام في جزء من بيت العائلة حتى وإن كان جزء خارجي أقرب للشارع منه لداخل البيت ويتناول طعامه وحيداً أم من يقتسم بيت واحد مع عشرات من بني جلدته و يتناول وجبته معهم على الرصيف؟
أعبُر العمال ، أتجاوز النوافذ ،أترك طفل الدراجة خلفي وأمضي إلى السيارة. تصادفني العاملة وطفل البقالة في طريق عودتهم إلى المنزل وبصحبتهم عاملة أخرى لا أعرف إن كانت صدفة طريق أم تخطيط صديقات. أركب السيارة وأشغل التسجيل الصوتي الذي بعثه لي عامل الستائر الباكستاني ينصحني فيه بتركيب ستارة على النافذة الكبيرة في غرفة الجلوس خاصتي. بعث لي العامل الرسالة الصوتية منذ أشهر بعد زيارة استشارية لمنزلي حاول فيها اقناعي بأن حياتي مكشوفة للشارع ليلاً وكل ماعلي هو أن أخرج حالاً وأقف عند باب البقالة المقابل لنافذتي وأراقب شقتي وسأحظى فوراً بمشاهدة مجانية للداخل، لم ينجح في اقناعي بحجب شقتي عن أعين المارة ولا حجب عيني بغشاوة عن مشاهدة الشارع لكني وعدته بالتفكير والرد متى ماجزمت أمري.
ضغطت زر التسجيل فوراً وقلت له بحسم أريد أن يأنس المشاة بالنور المنبعث من شقتي وبخلق قصة عني تسليهم، أريد أن أرى من يصحب الأطفال في طريقهم إلى البقالة وماذا يشترون ومتى تستجيب أم تمشي لقضية خاصة بطفلها ، أريد أن أرى طبق الفول الذي يقتسمه عمال عابرون وأشم رائحة خبز التميس الساخن بين أيديهم، أريد أن أسمع نغمة الايمو واللاين و (اشتقت لك ) بلغات مختلفة، لا أريد ستارة..