ليالي الأنس في فيينا
الذاكرة الوحيدة التي تربطني بالعاصمة النمساوية (فيينا) قبل أن أزورها؛ ذاكرة سمعية تتمثل في أغنية (ليالي الأنس) لأسمهان ولطالما تخيلت نفسي راقصة ليلاً على هذه الأغنية في شوارع فيينا .. النمسا بشكل عام لم تكن يوماً في قائمة أولويات الزيارة بالنسبة لي ، شيء خفي يبعدني عنها! ربما كثرة تكرارها على ألسن زوارها وكثرة حضورها كوجهة سياحية حتى بدا لي وكأني زرتها! أنا التي أعشق روما بينما يراها السياح العاصمة الأوروبية الأقل مستوى ولا أحمل مشاعر بعينها تجاه لندن رغم أني قضيت سنوات في بريطانيا وأحببت مدريد بينما كان الكثير ينصحني بعدم زيارتها وتعلقت بمالطا ولشبونة فيما كرهت جنيف هذا التاريخ الشخصي الموجز عن علاقتي بالمدن الأوروبية ربما يفسر بالنسبة لي على الأقل بقاء فيينا في مدن الحياد لا أكره زيارتها لكنها ليست أولوية ..
نهاية السنة الماضية 2021 كانت عصيبة بالنسبة لي مع الكثير من التحديات لذا كنت أتطلع لنهاية الفصل الدراسي ولإجازة مابين الفصلين. مع الكورونا وتبدل إجراءات السفر كل ليلة حاولت تضييق خياراتي على الوجهات السهلة نوعاً ما التي لا تحتاج تأشيرة أو لدي تأشيرة مسبقة صالحة لها، لا تطلب أي شكل من أشكال العزل وأخيراً أماكنها العامة مفتوحة بشكل طبيعي.. انطبقت الشروط على عدة مدن لكني اخترت المدن التي لم يسبق لي زيارتها ومنها فيينا.
هُنا فيينا (وصول ليلي)
وصلت فيينا بالسيارة من براغ (3 ساعات ونصف) ، كان الوقت ليلاً فكان الفندق هو الوجهة خصوصا أن المطاعم والأماكن العامة تغلق تماما عند العاشرة مساء.
حب من أول نظرة
هل حدث وأن كشفت لك مدينة عن ساقها من أول لقاء ؟ هذا مافعلته فيينا حين استقبلتني بفندق مختبىء في أحد الأحياء، دفعت بابه الخشبي الأحمر الداكن لتستقبلني أرضية الشطرنج والجدران الحمراء الداكنة وثريات الكريستال.. ما إن قرعت الجرس الذهبي الصغير على منضدة الاستقبال حتى وصلت الموظفة بشعرها الأشقر القصير وروحها اللطيفةوزيها الأخضر، ناولتنا المفتاح ذو الميدالية الحمراء (أعتقد أني الوحيدة في العالم التي فتنت بمفتاح غرفة فندق) مررت عليها وعلى بقية الموظفين هذه الدعابة (ممكن آخذ المفتاح تذكار) مرات كثيرة لكنهم قابلوها بدعابات تحول بيني وبين المفتاح على طريقة (انسي الموضوع). أما الغرفة فأخشى أن يظلم وصفي الأثاث المصنوع من خشب الراتان ، أو يبخس حق الراديو الكلاسيكي على طاولتها أو يحط من هيبة ثريا الكرستال فوق رأسي (لا عجب أنت في النمسا) لذا سأكتفي بأن أقول كنت في غرفة معدة لتصوير فلم كلاسكي أو دعاية عطر لعارضة بفستان سهرة أسود كل مافيها مدهش ومعتنى بتفاصيله بدءً من الجدران الحمراء التي احتضنتني بدفء مرورا بأرضية الشطرنج وانتهاء بالكرسي الأخضر المخملي. كل ملامح الفندق تبشر بمدينة متأنقة لا تعرف لغة غير الفن حتى في فنادقها ، هذا هو المعتاد والطبيعي فلا تحتاج لدفع مبالغ طائلة للحصول عليه..

طعام لذيذ ودافئ
من الأسئلة اليومية التي تهمني في أي مكان: أين سأتناول الفطور؟ قد يبدو السؤال تافه جداً لكن لشخص يعاني من مشاكل معدة معقدة ومن وساوس تتعلق بالصحة وزيادة الوزن ومن شهية معادية للبيض (أهم عنصر غذائي في قوائم الفطور حول العالم) فإن هذا السؤال مهم جداً عند زيارة أي بلد. فيينا مدينة تملك إجابات مثالية ومنوعة لسؤال من هذا النوع.. بين كل مقهى ومقهى هناك مخبز ويقابلهما مطعم للفطور والفطور المتأخر. هذا التنوع العظيم أنقذني من قوائم الطعام التي تغص بالبيض غالباً ووهبني خيارات الأفوكادو والحمص بنكهاته المختلفة والجرنولا والمخبوزات المنوعة.. ركزت على وجبة الفطور لأنها فاتحة اليوم والوجبة الرئيسية بالنسبة لي لكن بشكل عام لم يكن صعباُ أبداً الحصول على مطعم على بعد خطوات من أي نقطة أقرر التوقف فيها في أي وقت، دائماً هناك أماكن متميزة لتناول الطعام؛ مطعم يختبئ في حديقة صغيرة وآخر يمتد برحابة تحت سقف زجاجي تملىء أرضه النباتات.. قوائم ممتلئة بالطيبات والأهم لا تحصر الزبون في زاوية اللحوم! دفء المطاعم وتصاميمها المختلفة وأطباق شوربة القرع الممزوجة بزيت القرع جعلت اللقاء مع مطاعم فيينا لقاء للذاكرة لا يخبو ولن ينسى..

بيوت القهوة
الحديث عن مقاهي فيينا يبدأ ولا ينتهي.. يبدأ بأنها تُعرف باسم (بيوت القهوة) وتم تصنيفها من قبل هيئة اليونسكو للتراث ضمن قائمة التراث غير المادي. إذا كان الناس حول العالم يذهبون للمقاهي بهدف شراء كوب قهوة فإن الناس في فيينا يذهبون للمقاهي بهدف حضور النقاشات والجلسات الأدبية والحوارات كل هذا مقابل كوب قهوة . في مقاهي فيينا ستجد سيجموند فرويد وستيفان زفايغ والكثير ممن لازالوا يرتادون المقاهي للنقاشات ، والأهم ستجد المقاهي في كل شارع وركن وستجد خيارات الحليب النباتية متوفرة غالبا (: المظهر الكلاسيكي للمقاهي العريقة والخدمة التي تفوق خمسة نجوم بدء بمدّ المفرش الأبيض على الطاولة أمام عينك بطريقة كلاسيكية تخيّل لك أنك أحد أبطال داونتون آبي ثم تزويدك بالماء المجاني كل فترة وعدم استعجالهم لك بأي شكل من الأشكال وكأنك الزبون الوحيد يجعلك تفهم السرّ في اتخاذها مقر عمل وعنوان مراسلة من قبل بعض الأدباء والصحفيين المشاهير الذين كانوا يقضون جلّ وقتهم فيها. من هنا فهمت أيضاً اتخاذ مانديل بطل رواية (مانديل بائع الكتب القديمة) لأحد مقاهي فيينا مقراً له ومكتباً لعمله مما يشير لأن هذا الوضع كان سائد ومتعارف عليه في فيينا .. الصحف المصفوفة على طاولة خاصة في جميع المقاهي أو المعلقة على لوح خاص تجعلك أيضاً تفهم ستيفان زفايغ حين يقول في إحدى رواياته وفي وصف أحد مقاهي فيينا القديمة ” ستجد أناس يستهلكون الصحف أكثر من استهلاكهم للمرطبات”





كيف تقضي وقتاً لطيفاً في فيينا؟
هذا السؤال يمكن أن تسأله في أي مدينة عدا فيينا ، إذ أن الإجابات كثيرة بمجرد أن تخطو قدمك خطوة خارج مكان سكنك ستصادفك المتاحف وصالات العرض الفنية والقصور (الحقيقة لا تستهويني القصور إلا لو كان فيها مناسبة معينة كحفلة موسيقية أو معرض فني) والكنائس التي خصصت المساء للحفلات الموسيقية.. ستضع فيينا أمامك مائدة فنية موسيقية عظيمة وستترك لك الخيار وهذا كل مايحتاجه شخص مثلي ؛ الفن والموسيقى والأدب ثم التسكع هائماً في الطرقات . النهار كان من نصيب المتاحف والمعارض الفنية حيث تغلق ابوابها عند الساعة السادسة مساء أما الليل فما تيسر من حياة المدينة، في إحدى الليالي حضرت أوركسترا لكن بطريقة كوميدية مختلفة. وفي ليلة أخرى ألغت إحدى الكنائس الحفل الذي كنت أنوي حضوره لكنها مرة أخرى فيينا لن تضيع فيها ولن تسأم..




خذني معاك ! لا تنسى في زيارتك لفيينا أن تجرب زيت القرع الشهير، في الحقيقة حتى وإن نسيت فإن المطاعم لن تنسى اضافته لبعض الأطباق والتي على رأسها شوربة القرع لكن سأوصيك بأن تحمله معك كتذكار تزين به شريحة ساور دو مع جبنة الفيتا في صباحات الجمعة.. إن كنت من عشاق الكيك تحديداً ماكان بنكهة الشوكولاتة فلا تنسى كيكة الساخر في موطنها الأصلي تحديداً في مكان ولادتها : فندق ساخر. هذه الكيكة تعتبر أيقونة الكيك ويتم اعتبارها جزء مهم من الإرث النمساوي حتى أنهم وضعوا يوم خاص باسمها سنوياً يتم الاحتفال فيه بهذا الإرث!
إن وقعت في غرام هذه الكيكة فتطمن المحل لديه توصيل للسعودية لكثرة مريديها وتستطيع أيضاً حملها في صندوق مزين من المحل، أما أنا فلا زلت في صف كيكة التمر خاصتنا كأيقونة للكيك..


سرّ الهيام
فيينا فاتنة معجونة من الخليط المفضل لي؛ شوارع حية بناسها، ساحات يتناول الناس الطعام في الجلسات الخارجية لمطاعمها، أكل منوع ولذيذ ، مقاهي كلاسيكية ومقاهي حديثة كبيرة وصغيرة، مباني عريقة وفن فن فن في كل مكان والروح دائماً تواقة للفن، تُزهرّ بلوحة وتنمو بمنحوتة.. أيضا المدينة كأي مدينة أوروبية كل نقطة مهما بعدت إلا أنها لاتزال في حدود القدرة على المشي الأمر فقط بحاجة للياقتك و لجو لطيف وإن تعذر أحدها فالترام موجود. المدينة حية مبهجة رغم أنف الكورونا ورغم السؤال المتكرر عند دخول أي مكان عن شهادة اللقاح ورغم اشتراط نوع معين من الكمامات. أيضاً لن أنسى الناس الذين تفاعلت معهم وصادفتهم في هذه الأيام القليلة كانوا من اللطف لدرجة أن أحد كبار السن في أحد المقاهي حين عرضت عليه صورة ستيفان زفايغ كأحد رواد المقهى فتح معي محادثة بالألمانية واستمر فيها رغم ترديدي لكلمة : انجليزي انجليزي !! لكنه استمر مبتسم مبتهج على طريقة ستفهمين ستفهمين كذلك السيد الذي قابلته عند متحف فرويد وكان يرطن بالألمانية ويضحك هنا استخدمت تكنيك تسميه صديقتي هتاف (الفهم بالبوهة(الهيئة)) ففهمت أنه يقترح أن أصور أمام باب المتحف.. أخيراً، كل ماتم ذكره يتوفر في أماكن كثيرة لكن تظل للمدن روح خفية تتعدى الوجود المادي هذه الروح هي مايلمس الزوار ممن يرون المدينة بأرواحهم قبل عيونهم وقد لمست روح فيينا روحي فابتهجت وأحببت وردتت مع أسمهان “ليالي الانس في فيينا ،، نسيمها من نسيم الجنة” ..
بالمناسة فيينا كانت تسمى (فيندوبونا) ومعناه الهواء الجميل أو النسيم العليل، تحسباً لو تسائلتم عن مقطع (نسيمها من هوا الجنة ).
إن أحببتِ روما، فلا شك بأن تجذبك فينا، كيف لا وهي مدينة الادباء والفنانين، وشوارعها تضج بالمتاحف والفنون ورائحة القهوة. هنيئًا لكـ
إعجابLiked by 1 person