فيتنام Aug 2019

الامتداد في السفر شرقاً بالنسبة لي لم يكن هدفاً ملحّ بقدر ما كانت فكرة طارئة وأنا ملكة الأفكار الطارئة. بدأت الفكرة من بالي وقفزت إلى فيتنام؛ فيتنام التي لقنت العالم درساً في الصمود والإيمان بالحرية.

بعد مشورة الأصدقاء من مجانين السفر والمغرمين بالترحال وبعد أن صفقوا لفكرة السفر وحيدة إلى فيتنام بحقيبة ظهر ودون خارطة مثقلة بنوايا غير الخفة والتجرد والاكتشاف وضعت سبابتي على هوتشي منه (سايغون) لألقي فيها بجسدي/ روحي ومنها أمتد لأعلى حتى انتهي من فيتنام وتنتهي مني.

IMG_3037

بأقصى خفة ممكنة*

خلال السنوات الخمس الماضية اعتدت التنقل في أوروبا بخفة تناسب مشيتي السريعة التي يصر الأصدقاء والأهل على تسميتها جري وأصر على تسميتها مشي حتى إشعار آخر. حقيبتي الصغيرة تنحشر دائماً في كابينة الطائرة فوق رأسي لا تحمل أي شيء غير أساسي أو زائد عن الحاجة، لا كماليات، لا اكسسوار ولا أدوات زينة. هذه المرة ولأني كنت أنوي الاستسلام لمزاجي في النزول بالمدن والارتحال عنها قررت أن أكتفي بحقيبة ظهر تناسب التنقل المفاجئ والطويل في المواصلات العامة ومن سكن لآخر وبين المدن وفي المقاهي التي تفصل بين مدينتين أو مكانيّ سكن. أردت أن أحمل منزلي على ظهري، كل ما احتاجه يستطيع أن يتكوم ويحتضن بعضه البعض ويشد وثاقه فوق ظهري؛ كتب، قمصان وبنطلونات قماشية تليق بمناخ استوائي ولا تأخذ حيز كبير في الحقيبة، جزمة وملابس رياضية، منتجات عناية شخصية، فيتامينات، اسعافات أولية، شاحن متنقل، محوّل و دفتر مذكرات. حتى تبدو الصورة واضحة أنا لست من النوع المصاب بهلع: ماذا لو احتجت لقطعة ما ولم تكن معي؟! على العكس أعاني من تبلد تجاه هذا النوع من الأفكار ولا يشكل لي أي قلق. المهم أني فعلتها وحملت منزلي على ظهري وتنقلت به قرابة الشهر ما بين اندونيسيا وفيتنام من فندق إلى هوستل إلى نزل إلى منتجع ومن طائرة إلى باص إلى دراجة نارية. أضع منزلي بجانبي في أحد المقاهي بينما أقوم بحجز سكن وأضعه أمامي وأنا أتناول وجبة الفطور الأخيرة في مدينة قبل الانتقال لمدينة أخرى كل هذا بأقصى خفة ممكنة.

IMG_2118 (1)

مفتاح دخول

لكل بلد مفتاح دخول قد يكون مدفوع وقد يكون مجاني قد يفتح لك البلد لمدة طويلة وقد يفتحها لك لأيام فقط. دفعت لمفتاح فيتنام قرابة الستين دولار لأقيم فيها لمدة شهر هذا المفترض أقول المفترض لأن هناك قصة كان من الممكن أن تكون مخيفة لولا لطف الله الخفي الذي حولها لقصة مضحكة. دخلت فيتنام بخطاب الموافقة على الفيزا وفي المطار انتظرت دوري لأخذ الفيزا ومع الزحمة والتأخير والملل قفزت بفرح عند سماع اسمي والتقطت جوازي نظرت نظرة خاطفة للفيزا وانطلقت لأهرب من المطار وأصافح المدينة. دفعت ثمن الانطلاقة بعد قرابة عشرين يوم حين نظرت لي الموظفة في المطار في صالة المغادرة بدهشة وهي تقول ” تاريخ صلاحية التأشيرة منتهي منذ ١٤ يوم ” وهنا تحول النقاش مع إدارة الهجرة وضباطها الذين لا يتحدثون بااللغة الإنجليزية! كان الصراع في داخلي بين أمرين احتاج الجزم بينهما: هل يجب أن أبدو كغبية لا أفهم وأتودد لهم وأظهر جهلي أم أبدو حازمة و أصر أنها غلطتهم بأي حال من الأحوال (يسألونك عن البجاحة) الحقيقة اخترت الخيار الثاني فتكلمت بلهجة حازمة ورددت أني دفعت قيمة تأشيرة مدتها شهر وهذه غلطتهم وليست غلطتي كانت حدة انكار المسؤولية والتملص من الخطأ عالية عندي الأمر الذي دفعهم للجوء لضابط آخر يتحدث الإنجليزية على طريقة ” الله يصلحك جالسة في البلد وفيزتك منتهية” أثناء النقاشات كنت ألوح بشكل خفيف بكرت (استطيع الدفع إن كنتم ترغبون) لكن لم ألوح به كثيراً وبشكل واضح لأن البجاحة المفرطة كانت تحرضني بأن لا أدع لهم أي طريق لاستغلالي (وكأني لست المخطئة) بعد نصف ساعة مابين الإنجليزية والفيتنامية وخيالات الرعب التي تصورني في السجن متغيبة عن عملي لأني اخترقت أنظمة الهجرة والإقامة في بلد ووسط تنهيدات الضابط التي توحي بعظم الخطب فتح صفحة التأشيرة في جوازي وختمها وكتب عليها تمديد إلى يوم غد هكذا بكل بساطة الإنسان حين يتجاوز تعقيد الأنظمة.

الدراجة النارية حيث مات الخوف وولدت المتعة

إن كانت هناك قائمة امتنان سأكتبها في حق الأشياء التي منحتني إياها رحلة فيتنام فسيكون ركوب الدراجة النارية والتنقل بها على رأس القائمة. أنا من عشاق الدراجات الهوائية منذ الطفولة أما الدراجة النارية فكنت أتخوف من ركوبها أشعر أني لا أملك السيطرة التامة عليها. أثناء دراستي في بريطانيا كان أحد الأصدقاء ممن أمضوا نصف حياتهم على دراجة نارية في شمال إيطاليا يحاول إقناعي بتجربتها ولو لمرة وقد فعلت وجربتها، جربتها لدقيقة واحدة هي المدة التي وضعت جسدي عليها قبل أن أقفز بهلع متراجعة عن الفكرة هلع لم تمنعه السترة التي أرتديها ولا الخوذة ولا الشارع المنزوي الخالي من السيارات.

ما الذي حصل في فيتنام؟ الذي حصل أن الطفل الذي لا تقيده المخاوف استيقظ بداخلي وجرب اللعبة وأدمنها؛ حرفياً أدمنت ركوب الدراجات النارية، الانطلاق في الشوارع المزدحمة، العبور السريع بين السيارات الملتصقة ببعضها والأهم أني حققت شيء من أحلامي الطفولية وهو فتح ذراعي والتحليق من على ظهر دراجة نارية كمن يحتضن الحياة. يضحك الأصدقاء على فقرة الدراجة النارية ويصفونني بمن لا يجيد انتقاء أرض معاركه؛ لا أستخدم الدراجة النارية في أكثر الدول احتراماً لأنظمة الطريق والمرور بينما أقضي معظم وقتي في فيتنام على ظهرها! أول مره استخدمتها أعتقد أنها المرة التي كانت كفيلة بمعالجة مخاوفي عن طريق الغمر إذ صادفتني سيدة وأنا أمشي ومنزلي على ظهري وحين عرفت وجهتي تعجبت من رغبتي في قطعها مشياً وأنا ابتسم، عرضت علي أن تصطحبني بدراجتها فكان أول الغمر أن الخوذة التي استطاعت توفيرها لي هي خوذة دراجة هوائية بمقاس صغير واستمر الغمر كلما انحشرنا بين سيارتين حتى مات الخوف وولدت المتعة.

أين أضع رأسي؟

في فيتنام كانت المرة الأولى التي أجرب فيها السكن في هوستل حيث أتشارك غرفة النوم مع أخريات. جاءت الفكرة كمحاولة للقفز خارج منطقة الراحة خاصة أن هذه الرحلة برمتها كان هذا هو الهدف منها: القفز خارج الحدود لاكتشاف أنا جديدة والحقيقة أنها كانت قفزة جريئة جداً لشخص اعتاد لسنوات على السكن بمفرده وعلى الخصوصية والأهم شخص يعاني من وسواس النظافة والترتيب. جربتها مرتين في أول مدينة وفي ثاني مدينة أما الأولى فكانت جميلة، المكان صغير وهادئ والأعداد قليلة أما الثانية فكانت سيئة، المكان مزدحم بشتى الأمزجة والفوضوية، الضوضاء لم تدعني وشأني ورغم أني كسبت الكثير من معارفي في هذا المكان إلا أنه المكان الذي نفرني من تكرار التجربة. أكملت بقية الرحلة في فنادق عادية و دور ضيافة فعلاقتي مع مكان الإقامة في السفر هي علاقة وضع الرأس على المخدة آخر اليوم فقط ومنذ أن أفتح عيني في الصباح الباكر أقفز للخارج، لا أؤمن بتناول وجبة الفطور في مكان الإقامة اعتبره وسيلة لتضييع وقت يمكن قضائه في اكتشاف الأفضل كذلك لا أعود لمكان الإقامة إلا ليلاً حين تملني الشوارع ويعييني التعب والحقيقة أن الأخير لا يفعلها إلا نادراً في السفر. لا يرهقني التفكير الطويل في تفاصيل السكن المهم بالنسبة لي الأساسيات: تقييمات ممتازة، موقع ممتاز و نظافة بهذه الصفات أعتبر أني أضع رأسي في مكان آمن للحب/ للنوم.

“وحيدة أكثر من وحيد القرن”*

ماذا عن درجة الأمن في فيتنام بالنسبة لفتاة تسافر بمفردها؟

لم أشعر ولو لحظة في فيتنام بأني غير آمنة. تسكعت في كل الطرق وفي كل الأوقات، تحدثت للغرباء، جلست في المقاهي الشعبية، مررت رقم هاتفي لعدد من العابرين لأسباب مختلفة وارتكبت جملة من الحماقات (سأذكرها في التدوينات القادمة عن فيتنام) لكني لم أشعر أبداً بعدم الأمن أو الخوف.

يفترض أن تكون هذه التدوينة (إن لم يغلبني الكسل ) افتتاحية لسلسلة تدوينات عن فيتنام، تغطي كل تدوينة مدينة من المدن التي مررت بها وهذا لا يعني أن لدي وصايا عظيمة أو نصائح أو معلومات لا يعرفها أحد كل مافي الأمر أني شخص يستعين على الحياة بالكتابة ومشاركة التجارب..

 

 

* مجاراة لديوان “بأقصى زرقة ممكنة” لماجد العتيبي

* اقتباس من رواية “مساء يصعد الدرج” لعادل الحوشان

8 آراء على “فيتنام Aug 2019

  1. يبدو أن الرحلة دسمة والسلسلة ستكون ثرية.

    وحقيقةً، كنت لا أجد شغفًا يشدني لزيارة الشرق الآسيوي، لكن -وبسببك- بدأت الفكرة تلوح لي مؤخرا في كل مرة أستعرض فيها خيارات السفرة القادمة.

    *أكره التحيز للتفضيلات الشخصية، لكن لا أتخيل أسلوب سفر متعته تضاهي متعة السفر “بأقصى خفة ممكنة”.

    دمت بخير

    Liked by 1 person

  2. ألا يراودك شعور “ليت أحدهم معي” شخص مفضل ربما صديقه أو أخت أو شخص قريب إلى قلبك؟ لطالما أردت السفر بمفردي لكن حالما أفكر يراودني هذا الشعور ، لا أحب السفر الجماعي لكن الثنائي يبدو أفضل من وجهه نظري ، شخص مدرك لغرض سفري وطريقته ويريد عيش ذلك معي فما المانع؟

    Liked by 1 person

    1. طبعاً ممكن ولا توجد أي موانع، المسألة فقط تفضيلات بعض الأشخاص الأحب لهم السفر مع شخص مقرب والبعض الآخر يفضل السفر مع مجموعة والبعض لوحده وأنا أكثر ميل للفئة الأخيرة💖🙏🏽

      إعجاب

  3. تحمست صراحة مع رحلتك … ياليت تذكري لنا قصتك مع الأكل والشرب لأن هذا الشي يقلقني كثيراً في السفر إلى شرق آسيا .

    إعجاب

أضف تعليق