الهند: حكاية الرحلة الحلم
كانت الهند على رأس قائمة أمنياتي للسفر منذ عمر صغير قبل حتى أن يصبح السفر جزء من روتين حياتي. رتبت هذه الأمنية في القائمة من الأعلى وأصبحت أتفقدها سنوياً عند كل خطة سفر جديدة فأُخرج جزء من شبه القارة وأستعد لأيمم الوجه شطره لكنهُ مرة يتحول لفيتنام وأخرى لتونس ومرات ومرات لأوروبا. ببساطة عند كل خطة سفر جديدة يتصارع جزء من الهند مع مدينة لاتفوح منها رائحة البهار ولا تعرف لفة ( الساري) لكنها رغم ذلك تنتصر وتهزم البلد الذي طالما حلمت أن أتجول في شوارعه مرتدية الساري ومتذوقة البرياني تهزمها بحجة أن المدة القصيرة لا تليق بشبه قارة. ما إن أمنح صوتي لمدينة أخرى كوجهة سفر حتى أتهرب بعجل وأنشغل في لملمة حاجياتي لكي لا أنظر في عين الهند وأرى الخذلان… تبقى الهند بعد كل صراع في زاوية القلب تنتظر دورها بحزن من يرى أن العشرة لم تثمر في صاحبه وفي الوقت نفسه بثقة من يعرف أن صاحبه وإن ابتعد سيعود معتذراً له.
مأساة التأشيرة
في نوفمبر ٢٠٢٢ عدت معتذرة للهند بعد أن تصالحت مع فكرة زيارة جزء صغير منها. توسلت لسفارتها أن ترحم شغفي ببلدهم وحلمي بالسفر لها وتتغاضى عن كل القوانين التي اخترقتها بحضوري للسفارة رغم علمي بالتحذير الذي ينص على مراجعة مكتب التأشيرات وعدم الحضور للسفارة في حالات استخراج التأشيرات. هذه المرة صرعت الهند سيرلانكا وتايلاند وشامونيه غلبتهم جميعا وانتصرت لذكرياتي مع الأغاني الهندية ومشاهد الأفلام الرومانسية وغرامي القديم بالبرياني شديد الحرارة. هذه المرة كانت الهند (داعيتني) وهي عبارة كانت والدتي ترددها لكن عن مكة كلما قرر أحدهم بشكل مفاجئ وجازم السفر لها. هذه المرة دعتني الهند دعوة سريعة ومفاجئة عليّ تلبيتها بعد أسبوعين. لم أستطيع العثور على موعد للتقديم على التأشيرة سوا موعد بعيد بعداً قربني من السفارة و جعلني أطرق بابها وأقف خلف زجاج موظفي أمنها شارحة لهم أني سأذهب للهند بعد أسبوعين سأذهب وهذه المرة لن يقف في وجه أحلامي أي شيء حتى وإن كانت تأشيرة البلد. في الحقيقة إن كنت سأعترف بشيء فهو أني مزجت بين شخصيتين لأقنع موظفي السفارة بتسهيل استخراج التأشيرة لي؛ أما الشخصية الأولى فهي بريئة جداً لا تعرف القوانين والأنظمة لذلك حضرت للسفارة من أجل تأشيرة ومن يعرفني يعرف جيداً أني أبعد ما أكون عن هذه الشخصية أما الثانية فهي أنا التي كلما حاولت ترويضها حتى تحظى بفرص أفضل وحتى لا تنتهي بمصيبة أبت إلا أن تظهر! هذه الأنا ذات حجة ونفس طويل في الجدل فتعترض على الدبلوماسي الذي حضر أثناء وقوفها بباب السفارة وتعداها ودخل محفوفاً بإذن وترحيب موظف الأمن ليخرج وقد انتهى من إجراءات التأشيرة! الحمدلله أن موظفي سفارة الهند كانوا في صفي من الناحية النظرية للمساواة ولكن القوانين هي من تحكم الجانب التطبيقي مع الأسف! ما بين جدلي البريء والحقوقي تم تمرير أوراقي بعد توبيخ بسيط وظيفته شد أذني بطريقة أتذكرها مستقبلا فلا أحضر للسفارة من أجل موضوع بسيط كالتأشيرة. بالمناسبة لا أنصح أي أحد بفعلها، كل ماعليكم هو الترتيب المسبق للسفر لتمنعوا أنفسكم اللهث ما بين مكتب التأشيرات و السفارة. رضت عني الهند وقبلت اعتذاري ومنحتني تأشيرتها في غضون ثلاث أيام عمل و بإتصال خاص من موظف السفارة الذي تبنى قضية الفتاة التي تحلم بزيارة الهند وتخشى أن تحول التأشيرة بينها وبين حلمها. اتصال الموظف واهتمامه بالموضوع وبشارته لي بأن تأشيرتي جاهزة وطلبه لحساب الانستقرام الخاص بي ليتمكن من مشاهدة الهند بأعين زائرة محبة كانت أول علامات ما ينتظرني في الهند من تواضع وبساطة هي حتماً مايصفه طاغور حين يقول : ” ندنو من العظمة بقدر ما ندنو من التواضع”.
شيء من التخطيط
بعد الحصول على التأشيرة لم يبقى سوا حجز الطيران المؤكد إذ أني كعادة أي مسافر استخدمت حجز وهمي للحصول على التأشيرة حتى لا يضيع مالي سدا في حال كانت البيروقراطية أقوى من خططي المفاجئة والسريعة.بالنسبة لي كانت الهند في زاوية القلب منذ سنوات بعيدة منذ أن كانت ليالي السهر في المراهقة خلف شاشة التلفاز في شوارع دلهي وبين بيوتها وأغانيها لذا كنت أعرف جيداً أن رغبتي القديمة والصغيرة كانت تدور حول المثلث الذهبي؛ نيودلهي واغرا وجايبور كزيارة أولى قصيرة سيتلوها عدة زيارات. قرأت كثيراً عما ينتظرني في هذا المثلث وأطلعت على مخطط مقترح للرحلة من إحدى الشركات الكندية التي يروقني أسلوبها في السفر. هذا كله جعل الطالب الحريص داخلي يصنع مذكرته الملخصة والبسيطة للبلد ولأني أسافر دائماً بحثاً عن التسكع ودهشة الطريق لم أشغل بالي بالأفضل وال(يجب) كانت أعظم أهدافي في رحلة الهند تتلخص في التجول بالساري الهندي في شوارع دلهي وركوب الركشة الهندية (التكتوك) والتسكع بين الهنود بملامح طالما قابلها الهنود في بريطانيا بأنها (منهم وفيهم) وقد جاءت الفرصة لاختبار هذه الملاطفة..


ختم دخول
وصلت مطار نيودلهي لأكمل حلقات التواضع والبساطة التي وجدتها في السفارة فبينما كنت أقف منتظرة دوري في تفتيش الجوازات أشار لي موظف في كابينة القادمون ذوي الجوازات الدبلوماسية. ابتسمت له ولوحت بجوازي الأخضر الفاتح بما لا يكفي ليكون دبلوماسياً تحسباً لما إذا كانت هيئتي لا تكفي لتقول الشيء نفسه. قابل الموظف الابتسامة بابتسامة وأشار لي بأنه لا بأس، استلم الموظف جوازي وفتشه قبل ختمه وبدأ بالأسئلة المعتادة وقابلتها بالأجوبة المعتادة : زيارة، أول مره، أسبوع، أكاديمية في الجامعة ..وهنا توقف ورفع رأسه وابتسم: واووو ممتاز وظيفتك رائعة حقا رائعة وتدعو للفخر! لأول مره تحصل وظيفتي على هذا التقدير من موظف جوازات أو لنقل لأول مره يعبر أحدهم عن تقديره. رغم سفري الكثير إلا أن موظفي الجوازات والهجرة كانوا دائما مصدر توتر بالنسبة لي والوقوف بطوابيرهم أصعب وقوف تختبره نفسي عدة مرات في السنة. في طريقي للخروج سلمت جوازي لآخر موظف يقف بيني وبين الباب ليفحص ختم الدخول، صاح الموظف بفرح: سعودية! هل شاهدتي كأس العالم؟ السعودية هزمت الأرجنتين مبروك! كان اليوم خميس وقد هزمنا الأرجنتين يوم الثلاثاء. شكرا للكرة وللرياضة وللمنتخب وللموظف اللطيف الذي لم يجعلني أمر مرور العابر ومنتخبنا قد هزم الأرجنتين.
رجل الرحلة
إن كنتُ قد سافرت للهند دون مخططات تفصيلية ودون حتى حجوزات فنادق فلأني كنت واثقة أن أي خطط سياحية لن تستطيع هزم خطط خمسيني من أهل البلد ـجولفام رفيق الرحلة ومرشدها أحد العاملين السابقين في الرياض قبل أن ينقل عمله ويعود للهند-ـ كانت خطة جولفام هي أن آتي دون حجوزات فنادق لنترك للأمر من السعة مايجعلني أطيل البقاء في المدينة حين أحبها وأغادرها حين أكتفي منها وأختار الفنادق بعد أن أراها بعيني لا بعد أن أرى عدد نجومها وتقييمات المتطرفين لها حبا أو كرهاً. رغم أني سبق واتبعت هذه الطريقة في فيتنام إلا أن هذه المرة مختلفة ففي فيتنام كنت أملك شهر يتسع للتنقل والتسكع من مدينة لأخرى ومن مسكن لآخر لكن في الهند كل ما أملكه هو أسبوع غير قابل للزيادة فهل عساه يتسع لصنع ذكرى عظيمة تليق ببلد أحلامي. جولفام يعلم مسبقاً هدفي المحدد الوحيد في هذه الرحلة وهو زيارة مدن المثلث الذهبي بغض النظر عن أي مدينة تسبق الأخرى وكم مدة البقاء في كل واحدة وأين سأقيم. المفاجأة التي لم أكن مستعدة لها على الإطلاق والتي تصلح كمثال لدعاة الخروج من منطقة الراحة هو أني خرجت من المطار بصحبة جولفام وسائقه أتطلع لنيودلهي وماينتظرني فيها لكن الطريق بدأ يطول وينحرف باتجاه الشمال الشرقي مما لم يدع لي مجال للشك بأن طريقنا الحالي لن يتقاطع أبداً مع دلهي وهنا كانت المفاجأة الأولى إذ أن قائد الرحلة قرر أن نبدأ بالشمال صعودا باتجاه جبال الهمالاياحيث مدينتي: دهرادون وميسورو! هذه المفاجآة التي تقتضي قرابة خمس ساعات بالسيارة لشخص وصل للتو من رحلة أصابتني بالخرس المؤقت. كون خططي بسيطة غير تفصيلية لا يعني أن أقصد وجهة لم تكن ضمنها ولا أعرف أي شيء عنها على الإطلاق! جولفام معزياً لي حين لمح الصدمة في عيني: صدقيني ستبهرك أكثر من دلهي، لدي خطة ستعجبك، من يزر الهند ولا يزور ميسورو لا يعتبر زار الهند. استرجعت كل كتابات وتوصيات وتغريدات المتفائلين والمختصين في تطوير الذات وحاولت أن استمتع باللحظة وانظر للنصف الممتلئ من الكوب. هنا كانت أول دروس الحياة في الرحلة الهندية؛ أحياناً كل ماتحتاجه هو أن تتخلى عن الخطة وتنفتح على كل الاحتمالات. دهرادون وميسوري شمال الهند انتهت لتكون هي العلامة والذكرى الفريدة والمميزة لرحلتي، لذا أوصيكم ونفسي في السفر أن تتركوا مساحة للخروج عن النص وتقيسوا بعد ذلك حجم الدهشة.

على ظهر دراجة نارية
في اليوم التالي لوصولنا لدهرادون صعدنا لأعلى الجبال باتجاه ميسورو (ملكة التلال) و (مدينة الحب) وكان الارتجال والمفاجأة الثانية لجولفام حين قصد أحد الشبان المصطفين عند الدراجات النارية لتأجيرها وهو يقول لي أن اكمال الصعود للجبال وصولاً لشلالات كميتي يستدعي ركوب دراجة نارية! لحظة المكاشفة هذه أعادت لي ذكرياتي في طريق (جبال القهر) في جازان وأنا في سيارة دفع رباعي بقيادة مرشد متخصص في صعود هذه الجبال ومحاطة بالصديقات إلا أن كل هذا لم يهدئ روعي وأنا أشرح لهم أني في المرتفعات لا أثق بأي وسيلة نقل سوى قدمي وأحاول اقناعهم بتركي أمشي صعودا للجبل! الأمر نفسه الذي حاولت اقناع جولفام به؛ أن نصعد بأقدمنا دون الحاجة لدراجة نارية. رغم أني سبق وجربت التنقل بالدراجة النارية في فيتنام إلا أن التنقل كان في شوارع منبسطة وبخوذة تحمي رأسي من أي احتمالات خطرة وبمرآيا تساعد سائق الدراجة على تفادي أي مخاطر باختصار كنت أشعر بالأمان. أما الآن فالطريق ضيق وعلى مرتفع ولا خوذة للراكب ولا مرآيا للسائق أي أننا سنقود الدراجة متوكلين على الله ومستحضرين دعوات الوالدين أن يحفظنا الله أينما ذهبنا! كنت مثل طفل يقاوم رغبة والده في تجربة لعبة جديدة في مدينة الملاهي لكن الأمر ينتهي به مبتهج يرفض النزول منها. شغلت ذهني في الدقائق الأولى من رحلة الدراجة خيالات الاصطدام بإحدى السيارات التي تشق طريقها نزولا من الجبال بينما نشق طريقنا مع دراجات أخرى صعوداً، تسائلت ماإذا كنت قطعت هذه المسافة كله من الرياض إلي دلهي ثم ميسوروا لأسقط من دراجة نارية على جبل! ذكرت نفسي بالمكتوب وصليت لتكون رحلة آمنه خفيفة وأن تكون مخاوفي غير منطقية. بعد ٤٥ دقيقة من الصعود وتجاوز الدراجات الأخرى مره وتجاوزهم لنا مرات وصلنا لنقطة التوقف، انطلقنا لأقرب استراحة في الجبل وهي عبارة عن مكان مغطى بمظلة من حديد يحوي مجموعة من الكراسي البلاستيكية ودورة مياه صغيرة، كان صاحبه يجلس ملتفاً بشال كشميري ومنحني على علبة حديد أشعل فيها بعض المحروقات ليستدفي بنارها، أشار لنا لنشاركه الدفء. كنت أحتاج وقت طويل لهضم ما أقدمت عليه لكن طيبة الرجل الذي لم يستأثر بناره الصغيرة لنفسه وشاركها سريعاً مع غريبين قبل أن يصنع لهم شراب الشاي والحليب (آلجاي) السحري جعلتني أستشعر حقيقة أن علي هذه الأرض ما يستحق المغامرة والمشاهدة والإقدام دون تعقيدات المنطق التي تحكم كل خطوات حياتنا.


أرض رحبة وقلوب أكثر رحابة
الشمال لم يفتح عيني فقط على جمال لم أُمني النفس بمشاهدته ولكن فتحها على الإنسان الطيب والقلوب الرحبة أكثر من رحابة الأرض التي تسكنها. جعلني جولفام ابن الشمال الهندي وعائلته أشعر بأن الرحلة عبارة عن (كفالة يتيم) إذ دخلت في مشادات كثيرة معه على التكفل بالمصاريف لكنه بشهامة لا مثيل لها رفض أن أدفع لأي شيء طالما أنا بصحبته هذا فضلا عن عدم تقبله دفع أي مبلغ لسائقه. لا أعرف إن كان جولفام حالة خاصة أم أن أبناء دهرادون كلهم كذلك! هذا الفرض كان في ذهني في اليوم الأول حتى خرجت ليلاً من فندقي لأتجول وحدي في شارع دهرادون التجاري قبل أن يستوقفني محل ملابس قطنية بطباعة جيبوريه (نوع من الطباعة معين تشتهر به مدينة جايبور الهندية) دخلت وأبديت اعجابي بالمحل لصاحبته التي كانت بصحبة مساعدتها. بدأت التحدث معهما لأعرف أنها محامية استقالت من وظيفتها في بومباي هرباً من الضغط الشديد وشجاعة في التخلي عن الراتب الممتاز والعيشة المرفهة لتبدأ مشروعها الخاص في الحفلات وفي تزيين السيدات ثم تفتح هذا المحل الصغير في مدينتها الأم، أعبر عن إعجابي بشجاعتها أنا التي أمشي حياتي وفق خط مستقيم إن تحدثنا عن المهنة وتعبر عن شجاعتي في المضي وفق خط ثابت مستقر يعرف ماسينتهي له. قررت بهانو(صاحبة المحل) أن تنهي دوامها في المحل وتأخذني في جولة حول المدينة بعد تناول وجبة العشاء في أحد المطاعم التي تعتقد أنها ستعجبني وفي المطعم تجلى لي كرم آخر مماثل لكرم جولفام إذ رفضت رفيقة العشاء أن أدفع أي روبية وأصرت على أني ضيفتهم والدفع لي أبسط واجبات الضيافة قبل أن تدعوني لمنزلها فأستشعر كرما مضاعفاً. قضيت ليالي الشمال بصحبتها مستكشفة جمال المدينة و أماكانها الحميمية ومؤكدة إيماني بأن الإنسان مفطور على الخير و بأني دائماً سأجد هذا الخير فيمن التقيهم. هذا الإيمان الذي ينهكني شرحه للبعض ممن يلومونني على التحدث مع الغرباء ولا يعرف حلاوته إلا من عثر على الكثير من الأصدقاء صدفة طريق..


و أخيراً دلهي
وصلنا دلهي بعد قرابة الثمان ساعات من السفر البري وازدحام الطرقات . ارتديت (البنجابي) بفرح طفل يلبس الشماغ لأول مره في العيد وانطلقنا متجولين بين معالم المدينة. شدني أول ماشدني التجمع البسيط للناس حول بوابة الهند فلم يسبق لي أن شاهدت الناس في أي مكان في العالم يقضون نزهتهم على بساط حول قوس النصر بصحبة مشروباتهم و وجباتهم الخفيفة.. شوارع دلهي مسرح ملون مزدحم تقابل فيه لأول مره أشخاص على فطرتهم الأولى لم ينهكهم التهذيب ولا التملق ولا كل ما علمتك إياه أفلام هوليوود. شوارع دلهي هي الشوارع الوحيدة التي يأخذ فيها الحيوان بيد الإنسان ويسيران معاً؛ كلب لرجل ، بقرة لإمرأة، حمار لقرد في أعظم خليط حيواني إنساني رأيته في شارع. المشي بسلام بين كل هذه الحيوات علمني أن في بقعةٍ ما من الأرض مازال الإنسان لا يجد بأساً في مشاركة أرضه وطعامه مع حيوان. أما الزحام و التصاق الكتف بالكتف في شوارع دلهي فقد أعادني لسائحة أمريكية تجيب في موقع ترب ادفايزر على سؤال سائحة أخرى عن الأمان في دلهي فتقول: إن مسألة عدم الأمان مبالغ فيها، دلهي المدينة الوحيدة التي لا يكاد يخلو شبر منها من تجمع بشري مما يجعلك محاطاً دائما بالناس ولا خوف حين يكون الشخص بين الجميع أو بدقة أكثر احتمالية الخطر أقل. في الحقيقة هذا مالمسته بنفسي إذ كنت أخرج كل ليلة لوحدي و أتسكع في الشوارع وبين الناس دون أن أشعر بالخوف.

” ترى ماهو الامتحان الأعمق في الحب: أن تصطفي من تحب ليكون إلى جوارك في صخب الحياة؛ أم في سكينة الموت؟” محمد المخزنجي
العبارة السابقة مقتطفة من حديث للكاتب المصري المخزنجي عن تاج محل.. تاج محل بالنسبة لي حلم طفولة وبعض أحلام الطفولة تكبر معنا ولا نكبر عنها لذا اخترت أن أودع الهند به وأن يكون آخر ما أحتفظ به في ذاكرتي عنها. هذه الأسطورة المعمارية التي خلدت قصة حب الشاه جيهان لممتاز محل وعدت من عجائب الدنيا هو أول علامة تحضر في أذهان الكثير عند الحديث عن الهند ولعلي أولهم. تاج محل الذي سافرت لأغرا لأراه كان امتداداً لحب الشاه وممتاز ليس فقط بضريحيهما الخالدة ولكن بثنائيات العشاق المنتشرة في أرجاء تاج محل والتي تعلمك أن الرومانسية في الأفلام الهندية هي حقيقة يمكن مشاهدتها في الواقع متى ما زرت تاج محل.


ختم خروج
الهند تشبه المعلمة التي تصر على أن تلقنك الدرس وتتأكد من فهمك حتى و جرس نهاية الحصة يقرع. في المطار مرّ من أمامي عدة أشخاص اخترقوا طابورنا الطويل لأسباب مختلفة وفي كل مره كان الجميع يسمح لهم بالمرور ويقبل العذر ووحدي كنت أبلغ درجة الغليان حتى انفجرت وخطبت في الطابور بأن ما يحدث غير مقبول! اعتذر من خرق الطابور متعجب من غضبي وبكياسة اعتذر الرجال المصطفين في أماكنهم أمامي، اعتذروا عما لا ذنب لهم به وأصروا على أن أتقدمهم، أعينهم الهادئة جداً كانت تقول لي على هذه الأرض مايستحق توفير ثورات الغضب له.
अलविदा
ودعت الهند بعد أسبوع من السفر بين مدنها والوقوف باستراحات طرقها، ودعتها بعد الكثير من أكواب الجاي التي لازلت متعجبة من كونها مصنوعة من الفخار لكنها ترمى بعد الانتهاء من الشرب! ودعت الشوارع بناسها وكلابها وبقرها وقردتها.. ودعت جولفام ممتنة للخروج عن النص الذي علمني أن هناك الكثير من الدهشة خارج المتوقع وممتنة لكرمه وشهامته التي جعلتني بشكل لا يمكن شرحه أبكي أثناء وداعه في المطار. إن كان شاه جيهان منح السياح مايستحق الزيارة والتصوير فقد منحني جولفام والهند مايستحق التعلم والتغيير..



** صور الرحلة ومعلومات أكثر مثبته على حسابي على انستقرام @malsamih