الهند: حكاية الرحلة الحلم

كانت الهند على رأس قائمة أمنياتي للسفر منذ عمر صغير قبل حتى أن يصبح السفر جزء من روتين حياتي. رتبت هذه الأمنية في القائمة من الأعلى وأصبحت أتفقدها سنوياً عند كل خطة سفر جديدة فأُخرج جزء من شبه القارة وأستعد لأيمم الوجه شطره لكنهُ مرة يتحول لفيتنام وأخرى لتونس ومرات ومرات لأوروبا. ببساطة عند كل خطة سفر جديدة يتصارع جزء من الهند مع مدينة لاتفوح منها رائحة البهار ولا تعرف لفة ( الساري) لكنها رغم ذلك تنتصر وتهزم البلد الذي طالما حلمت أن أتجول في شوارعه مرتدية الساري  ومتذوقة البرياني تهزمها بحجة أن المدة القصيرة لا تليق بشبه قارة. ما إن أمنح صوتي لمدينة أخرى  كوجهة سفر حتى أتهرب بعجل وأنشغل في لملمة حاجياتي لكي لا أنظر في عين الهند وأرى الخذلان… تبقى الهند بعد كل صراع في زاوية القلب تنتظر دورها بحزن من يرى أن العشرة لم تثمر في صاحبه وفي الوقت نفسه بثقة من يعرف أن صاحبه وإن ابتعد سيعود معتذراً له.

مأساة التأشيرة

في نوفمبر ٢٠٢٢ عدت معتذرة للهند بعد أن تصالحت مع فكرة زيارة جزء صغير منها. توسلت لسفارتها أن ترحم شغفي ببلدهم وحلمي بالسفر لها وتتغاضى عن كل القوانين التي اخترقتها بحضوري للسفارة رغم علمي بالتحذير الذي ينص على مراجعة مكتب التأشيرات وعدم الحضور للسفارة في حالات استخراج التأشيرات. هذه المرة صرعت الهند سيرلانكا وتايلاند وشامونيه غلبتهم جميعا وانتصرت لذكرياتي مع الأغاني الهندية ومشاهد الأفلام الرومانسية وغرامي القديم بالبرياني شديد الحرارة. هذه المرة كانت الهند (داعيتني) وهي عبارة كانت والدتي ترددها لكن عن مكة كلما قرر أحدهم بشكل مفاجئ وجازم السفر لها. هذه المرة دعتني الهند دعوة سريعة ومفاجئة عليّ تلبيتها بعد أسبوعين. لم أستطيع العثور على موعد للتقديم على التأشيرة سوا موعد بعيد بعداً قربني من السفارة و جعلني أطرق بابها وأقف خلف زجاج موظفي أمنها شارحة لهم أني سأذهب للهند بعد أسبوعين سأذهب وهذه المرة لن يقف في وجه أحلامي أي شيء حتى وإن كانت تأشيرة البلد. في الحقيقة إن كنت سأعترف بشيء فهو أني مزجت بين شخصيتين لأقنع موظفي السفارة بتسهيل استخراج التأشيرة لي؛ أما الشخصية الأولى فهي بريئة جداً لا تعرف القوانين والأنظمة لذلك حضرت للسفارة من أجل تأشيرة ومن يعرفني يعرف جيداً أني أبعد ما أكون عن هذه الشخصية أما الثانية فهي أنا التي كلما حاولت ترويضها حتى تحظى بفرص أفضل وحتى لا تنتهي بمصيبة أبت إلا أن تظهر! هذه الأنا ذات حجة ونفس طويل في الجدل فتعترض على الدبلوماسي الذي حضر أثناء وقوفها بباب السفارة وتعداها ودخل محفوفاً بإذن وترحيب موظف الأمن ليخرج وقد انتهى من إجراءات التأشيرة! الحمدلله أن موظفي سفارة الهند كانوا في صفي من الناحية النظرية للمساواة ولكن القوانين هي من تحكم الجانب التطبيقي مع الأسف! ما بين جدلي البريء والحقوقي تم تمرير أوراقي بعد توبيخ بسيط وظيفته شد أذني بطريقة أتذكرها مستقبلا فلا أحضر للسفارة من أجل موضوع بسيط كالتأشيرة. بالمناسبة لا أنصح أي أحد بفعلها، كل ماعليكم هو الترتيب المسبق للسفر لتمنعوا أنفسكم اللهث ما بين مكتب التأشيرات و السفارة. رضت عني الهند وقبلت اعتذاري ومنحتني تأشيرتها في غضون ثلاث أيام عمل و بإتصال خاص من موظف السفارة الذي تبنى قضية الفتاة التي تحلم بزيارة الهند وتخشى أن تحول التأشيرة بينها وبين حلمها. اتصال الموظف واهتمامه بالموضوع وبشارته لي بأن تأشيرتي جاهزة وطلبه لحساب الانستقرام الخاص بي ليتمكن من مشاهدة الهند بأعين زائرة محبة كانت أول علامات ما ينتظرني في الهند من تواضع وبساطة هي حتماً مايصفه طاغور حين يقول : ” ندنو من العظمة بقدر ما ندنو من التواضع”.

شيء من التخطيط

بعد الحصول على التأشيرة لم يبقى سوا حجز الطيران المؤكد  إذ أني كعادة أي مسافر استخدمت حجز وهمي للحصول على التأشيرة حتى لا يضيع مالي سدا في حال كانت البيروقراطية أقوى من خططي المفاجئة والسريعة.بالنسبة لي كانت الهند في زاوية القلب منذ سنوات بعيدة منذ أن كانت ليالي السهر في المراهقة خلف شاشة التلفاز في شوارع دلهي وبين بيوتها وأغانيها لذا كنت أعرف جيداً أن رغبتي القديمة والصغيرة كانت تدور حول المثلث الذهبي؛ نيودلهي واغرا وجايبور كزيارة أولى قصيرة سيتلوها عدة زيارات.  قرأت كثيراً عما ينتظرني في هذا المثلث وأطلعت على مخطط مقترح للرحلة من إحدى الشركات الكندية التي يروقني أسلوبها في السفر. هذا كله جعل الطالب الحريص داخلي يصنع مذكرته الملخصة والبسيطة للبلد ولأني أسافر دائماً بحثاً عن التسكع ودهشة الطريق لم أشغل بالي بالأفضل وال(يجب)  كانت أعظم أهدافي في رحلة الهند تتلخص في  التجول بالساري الهندي في شوارع دلهي وركوب الركشة الهندية (التكتوك) والتسكع بين الهنود بملامح طالما قابلها الهنود في بريطانيا بأنها (منهم وفيهم) وقد جاءت الفرصة لاختبار هذه الملاطفة..

ختم دخول

وصلت مطار نيودلهي لأكمل حلقات التواضع والبساطة التي وجدتها في السفارة فبينما كنت أقف منتظرة دوري في تفتيش الجوازات أشار لي موظف في كابينة القادمون ذوي الجوازات الدبلوماسية. ابتسمت له ولوحت بجوازي الأخضر الفاتح بما لا يكفي ليكون دبلوماسياً تحسباً لما  إذا كانت هيئتي لا تكفي لتقول الشيء نفسه. قابل الموظف الابتسامة بابتسامة وأشار لي بأنه لا بأس، استلم الموظف جوازي وفتشه قبل ختمه وبدأ بالأسئلة المعتادة وقابلتها بالأجوبة المعتادة : زيارة، أول مره، أسبوع، أكاديمية في الجامعة ..وهنا توقف ورفع رأسه وابتسم: واووو ممتاز وظيفتك رائعة حقا رائعة وتدعو للفخر! لأول مره تحصل وظيفتي على هذا التقدير من موظف جوازات أو لنقل لأول مره يعبر أحدهم عن تقديره. رغم سفري الكثير إلا أن موظفي الجوازات والهجرة كانوا دائما مصدر توتر بالنسبة لي والوقوف بطوابيرهم أصعب وقوف تختبره نفسي عدة مرات في السنة. في طريقي للخروج سلمت جوازي لآخر موظف يقف بيني وبين الباب ليفحص ختم الدخول، صاح الموظف بفرح: سعودية! هل شاهدتي كأس العالم؟ السعودية هزمت الأرجنتين مبروك! كان اليوم خميس وقد هزمنا الأرجنتين يوم الثلاثاء. شكرا للكرة وللرياضة وللمنتخب وللموظف اللطيف الذي لم يجعلني أمر مرور العابر ومنتخبنا قد هزم الأرجنتين.

رجل الرحلة

إن كنتُ قد سافرت للهند دون مخططات تفصيلية ودون حتى حجوزات فنادق فلأني كنت واثقة أن أي خطط سياحية لن تستطيع هزم خطط  خمسيني من أهل البلد ـجولفام رفيق الرحلة ومرشدها أحد العاملين السابقين في الرياض قبل أن ينقل عمله ويعود للهند-ـ  كانت خطة جولفام هي أن آتي دون حجوزات فنادق لنترك للأمر من السعة مايجعلني أطيل البقاء في المدينة حين أحبها وأغادرها حين أكتفي منها وأختار الفنادق بعد أن أراها بعيني لا بعد أن أرى عدد نجومها وتقييمات المتطرفين لها حبا أو كرهاً. رغم أني سبق واتبعت هذه الطريقة في فيتنام إلا أن هذه المرة مختلفة ففي فيتنام كنت أملك شهر يتسع للتنقل والتسكع من مدينة لأخرى ومن مسكن لآخر لكن في الهند كل ما أملكه هو أسبوع غير قابل للزيادة فهل عساه يتسع لصنع ذكرى عظيمة تليق ببلد أحلامي.  جولفام يعلم مسبقاً هدفي المحدد الوحيد في هذه الرحلة وهو زيارة مدن المثلث الذهبي بغض النظر عن أي مدينة تسبق الأخرى وكم مدة البقاء في كل واحدة وأين سأقيم. المفاجأة التي لم أكن مستعدة لها على الإطلاق والتي تصلح كمثال لدعاة الخروج من منطقة الراحة هو أني خرجت من المطار بصحبة جولفام وسائقه أتطلع لنيودلهي وماينتظرني فيها لكن الطريق بدأ يطول وينحرف باتجاه الشمال الشرقي مما لم يدع لي مجال للشك بأن طريقنا الحالي لن يتقاطع أبداً مع دلهي وهنا كانت المفاجأة الأولى إذ أن قائد الرحلة  قرر أن نبدأ بالشمال صعودا باتجاه جبال الهمالاياحيث مدينتي: دهرادون وميسورو! هذه المفاجآة التي تقتضي قرابة خمس ساعات بالسيارة لشخص وصل للتو من رحلة أصابتني بالخرس المؤقت. كون خططي بسيطة غير تفصيلية لا يعني أن أقصد وجهة لم تكن ضمنها ولا أعرف أي شيء عنها على الإطلاق!  جولفام معزياً لي حين لمح الصدمة في عيني: صدقيني ستبهرك أكثر من دلهي، لدي خطة ستعجبك، من يزر الهند ولا يزور ميسورو لا يعتبر زار الهند. استرجعت كل كتابات وتوصيات وتغريدات المتفائلين والمختصين في تطوير الذات وحاولت أن استمتع باللحظة وانظر للنصف الممتلئ من الكوب. هنا كانت أول دروس الحياة في الرحلة الهندية؛ أحياناً كل ماتحتاجه هو أن تتخلى عن الخطة وتنفتح على كل الاحتمالات. دهرادون وميسوري شمال الهند انتهت لتكون هي العلامة والذكرى الفريدة والمميزة لرحلتي، لذا أوصيكم ونفسي في السفر أن تتركوا مساحة للخروج عن النص وتقيسوا بعد ذلك حجم الدهشة.

على ظهر دراجة نارية

 في اليوم التالي لوصولنا لدهرادون صعدنا لأعلى الجبال باتجاه ميسورو (ملكة التلال) و (مدينة الحب) وكان الارتجال والمفاجأة الثانية لجولفام حين قصد أحد الشبان المصطفين عند الدراجات النارية لتأجيرها وهو يقول لي أن اكمال الصعود للجبال وصولاً لشلالات كميتي يستدعي ركوب دراجة نارية! لحظة المكاشفة هذه أعادت لي ذكرياتي في طريق (جبال القهر) في جازان وأنا في سيارة دفع رباعي بقيادة مرشد متخصص في صعود هذه الجبال ومحاطة بالصديقات إلا أن كل هذا لم يهدئ روعي وأنا أشرح لهم أني في المرتفعات لا أثق بأي وسيلة نقل سوى قدمي وأحاول اقناعهم بتركي أمشي صعودا للجبل! الأمر نفسه الذي حاولت اقناع جولفام به؛ أن نصعد بأقدمنا دون الحاجة لدراجة نارية. رغم أني سبق وجربت التنقل بالدراجة النارية في فيتنام إلا أن التنقل كان في شوارع منبسطة وبخوذة تحمي رأسي من أي احتمالات خطرة وبمرآيا تساعد سائق الدراجة على تفادي أي مخاطر باختصار كنت أشعر بالأمان. أما الآن فالطريق ضيق وعلى مرتفع ولا خوذة للراكب ولا مرآيا للسائق أي أننا سنقود الدراجة متوكلين على الله ومستحضرين دعوات الوالدين أن يحفظنا الله أينما ذهبنا! كنت مثل طفل يقاوم رغبة والده في تجربة لعبة جديدة في مدينة الملاهي لكن الأمر ينتهي به مبتهج يرفض النزول منها. شغلت ذهني في الدقائق الأولى من رحلة الدراجة خيالات الاصطدام بإحدى السيارات التي تشق طريقها نزولا من الجبال بينما نشق طريقنا مع دراجات أخرى صعوداً، تسائلت ماإذا كنت قطعت هذه المسافة كله من الرياض إلي دلهي ثم ميسوروا لأسقط من دراجة نارية على جبل! ذكرت نفسي بالمكتوب وصليت لتكون رحلة آمنه خفيفة وأن تكون مخاوفي غير منطقية. بعد ٤٥ دقيقة من الصعود وتجاوز الدراجات الأخرى مره وتجاوزهم لنا مرات وصلنا لنقطة التوقف، انطلقنا لأقرب استراحة في الجبل وهي عبارة عن مكان مغطى بمظلة من حديد يحوي مجموعة من الكراسي البلاستيكية ودورة مياه صغيرة،  كان صاحبه يجلس ملتفاً بشال كشميري ومنحني على علبة حديد أشعل فيها بعض المحروقات ليستدفي بنارها، أشار لنا لنشاركه الدفء. كنت أحتاج وقت طويل لهضم ما أقدمت عليه لكن طيبة الرجل الذي لم يستأثر بناره الصغيرة لنفسه وشاركها سريعاً مع غريبين قبل أن يصنع لهم شراب الشاي والحليب (آلجاي) السحري جعلتني أستشعر حقيقة أن علي هذه الأرض ما يستحق المغامرة والمشاهدة والإقدام دون تعقيدات المنطق التي تحكم كل خطوات حياتنا.

أرض رحبة وقلوب أكثر رحابة

الشمال لم يفتح  عيني فقط على جمال لم أُمني النفس بمشاهدته  ولكن فتحها على الإنسان الطيب والقلوب الرحبة أكثر من رحابة الأرض التي تسكنها.  جعلني جولفام ابن الشمال الهندي وعائلته أشعر بأن الرحلة عبارة عن (كفالة يتيم) إذ دخلت في مشادات كثيرة معه على التكفل بالمصاريف لكنه بشهامة لا مثيل لها رفض أن أدفع لأي شيء طالما أنا بصحبته هذا فضلا عن عدم تقبله دفع أي مبلغ لسائقه. لا أعرف إن كان جولفام حالة خاصة أم أن أبناء دهرادون كلهم كذلك! هذا الفرض كان في ذهني في اليوم الأول حتى خرجت ليلاً من فندقي لأتجول وحدي في شارع دهرادون التجاري قبل أن يستوقفني محل ملابس قطنية بطباعة جيبوريه (نوع من الطباعة معين تشتهر به مدينة جايبور الهندية) دخلت وأبديت اعجابي بالمحل لصاحبته التي كانت بصحبة مساعدتها. بدأت التحدث معهما لأعرف أنها محامية استقالت من وظيفتها في بومباي هرباً من الضغط الشديد وشجاعة في التخلي عن الراتب الممتاز والعيشة المرفهة لتبدأ مشروعها الخاص في الحفلات وفي تزيين السيدات ثم تفتح هذا المحل الصغير في مدينتها الأم، أعبر عن إعجابي بشجاعتها أنا التي أمشي حياتي وفق خط مستقيم إن تحدثنا عن المهنة وتعبر عن شجاعتي في المضي وفق خط ثابت مستقر يعرف ماسينتهي له. قررت بهانو(صاحبة المحل) أن تنهي دوامها في المحل وتأخذني في جولة حول المدينة بعد تناول وجبة العشاء في أحد المطاعم التي تعتقد أنها ستعجبني وفي المطعم تجلى لي كرم آخر مماثل لكرم جولفام إذ رفضت رفيقة العشاء أن أدفع أي روبية وأصرت على أني ضيفتهم والدفع لي أبسط واجبات الضيافة قبل أن تدعوني لمنزلها فأستشعر كرما مضاعفاً. قضيت ليالي الشمال بصحبتها مستكشفة جمال المدينة و أماكانها الحميمية ومؤكدة إيماني بأن الإنسان مفطور على الخير و بأني دائماً سأجد هذا الخير فيمن التقيهم. هذا الإيمان  الذي ينهكني شرحه للبعض ممن يلومونني على التحدث مع الغرباء ولا يعرف حلاوته إلا من عثر على الكثير من الأصدقاء صدفة طريق..

و أخيراً دلهي  

وصلنا دلهي بعد قرابة الثمان ساعات من السفر البري وازدحام الطرقات . ارتديت (البنجابي) بفرح طفل يلبس الشماغ لأول مره في العيد وانطلقنا متجولين بين معالم المدينة. شدني أول ماشدني التجمع البسيط للناس حول بوابة الهند فلم يسبق لي أن شاهدت الناس في أي مكان في العالم يقضون نزهتهم على بساط حول قوس النصر بصحبة مشروباتهم و وجباتهم الخفيفة.. شوارع دلهي مسرح ملون مزدحم تقابل فيه لأول مره أشخاص على فطرتهم الأولى لم ينهكهم التهذيب ولا التملق ولا كل ما علمتك إياه أفلام هوليوود. شوارع دلهي هي الشوارع الوحيدة التي يأخذ فيها الحيوان بيد الإنسان ويسيران معاً؛ كلب لرجل ، بقرة لإمرأة، حمار لقرد في أعظم خليط حيواني إنساني رأيته في شارع. المشي بسلام بين كل هذه الحيوات علمني أن في بقعةٍ ما من الأرض مازال الإنسان لا يجد بأساً في مشاركة أرضه وطعامه مع حيوان. أما الزحام و التصاق الكتف بالكتف في شوارع دلهي فقد أعادني لسائحة أمريكية تجيب في موقع ترب ادفايزر على سؤال سائحة أخرى عن الأمان في دلهي فتقول: إن مسألة عدم الأمان مبالغ فيها، دلهي المدينة الوحيدة التي لا يكاد يخلو شبر منها من تجمع بشري مما يجعلك محاطاً دائما بالناس ولا خوف حين يكون الشخص بين الجميع أو بدقة أكثر احتمالية الخطر أقل. في الحقيقة هذا مالمسته بنفسي إذ كنت أخرج كل ليلة لوحدي و أتسكع في الشوارع وبين الناس دون أن أشعر بالخوف.

” ترى ماهو الامتحان الأعمق في الحب: أن تصطفي من تحب ليكون إلى جوارك في صخب الحياة؛ أم في سكينة الموت؟” محمد المخزنجي

العبارة السابقة مقتطفة من حديث للكاتب المصري المخزنجي عن تاج محل.. تاج محل بالنسبة لي حلم طفولة وبعض أحلام الطفولة تكبر معنا ولا نكبر عنها لذا اخترت أن أودع الهند به وأن يكون آخر ما أحتفظ به في ذاكرتي عنها. هذه الأسطورة المعمارية التي خلدت قصة حب الشاه جيهان لممتاز محل وعدت من عجائب الدنيا هو أول علامة تحضر في أذهان الكثير عند الحديث عن الهند ولعلي أولهم. تاج محل الذي سافرت لأغرا لأراه كان امتداداً لحب الشاه وممتاز ليس فقط بضريحيهما الخالدة ولكن بثنائيات العشاق المنتشرة في أرجاء تاج محل والتي تعلمك أن الرومانسية في الأفلام الهندية هي حقيقة يمكن مشاهدتها في الواقع متى ما زرت تاج محل.

ختم خروج

الهند تشبه المعلمة التي تصر على أن تلقنك الدرس وتتأكد من فهمك حتى و جرس نهاية الحصة يقرع. في المطار مرّ من أمامي عدة أشخاص اخترقوا طابورنا الطويل لأسباب مختلفة وفي كل مره كان الجميع يسمح لهم بالمرور ويقبل العذر ووحدي كنت أبلغ درجة الغليان حتى انفجرت وخطبت في الطابور بأن ما يحدث غير مقبول! اعتذر من خرق الطابور متعجب من غضبي وبكياسة اعتذر الرجال المصطفين في أماكنهم أمامي، اعتذروا عما لا ذنب لهم به وأصروا على أن أتقدمهم، أعينهم الهادئة جداً كانت تقول لي على هذه الأرض مايستحق توفير ثورات الغضب له.

अलविदा

ودعت الهند بعد أسبوع من السفر بين مدنها والوقوف باستراحات طرقها، ودعتها بعد الكثير من أكواب الجاي التي لازلت متعجبة من كونها مصنوعة من الفخار لكنها ترمى بعد الانتهاء من الشرب! ودعت الشوارع بناسها وكلابها وبقرها وقردتها.. ودعت جولفام ممتنة للخروج عن النص الذي علمني أن هناك الكثير من الدهشة خارج المتوقع وممتنة لكرمه وشهامته التي جعلتني بشكل لا يمكن شرحه أبكي أثناء وداعه في المطار. إن كان شاه جيهان منح السياح مايستحق الزيارة والتصوير فقد منحني جولفام والهند مايستحق التعلم والتغيير..

** صور الرحلة ومعلومات أكثر مثبته على حسابي على انستقرام @malsamih

المشي: نوافذ و حكايات

دخول الشتاء على استحياء هذه الأيام ومغازلته لقلوبنا الجافة بليالي (نسيمها من نسيم الجنة) حرَرّ حذاء المشي من قيده في شنطة السيارة. انتهيت من موعد مسائي سريع وعوضاً عن الرجوع للبيت توقفت عند (الممشى) المفضل لي حتى لا أضيع على نفسي فرصة العثور على رياض من النوع الذي تغنى به بدر بن عبدالمحسن..

ممرّ طويل يخترق مجموعة من البيوت، تحفه الأشجار من الجانبين و تتخذه القطط أمانها وبيتها.. أحب فيه هويّاته المتعددة فهو مسار رياضي للمشاة والعدائين، ملجأ للقطط، ممرّ للعشاق،  نقطة تجمع لأعراق متنوعة ومعرض عمارة يفتح عينيك على وجه مختلف لبيوت الرياض وأحيانًا ساحة عرض لسيارات كلاسيكية .. 

المشي فيه يعيدني لعاداتي المفضلة في المشي؛ المشي وحيدة بصحبة أفكاري ، المشي السريع بذهن شارد حتى تقف في وجهي شجرة أو عمود إنارة،  المشي دون همّ قتل السعرات الحرارية أو تسجيل رقم قياسي على التطبيقات الرياضية المحفزة وأخيراً يعيدني لنفسي الحكائة التي تستمتع بخلق القصص والاستطراد في التفاصيل عن كل ماحولها حجارة كانت أو بشر..

حين أمشي معي أحب أن أحافظ على قداسة اللحظة فلا أمنح أذني لقائمة أغاني أو لثرثرة هاتف نقال بل أمنحها لكل القصص من حولها. أقف عند النافذة التي أغلقها أصحابها بساتر من الحديد وأتخيل شكل العائلة خلف الحديد وشكل مخاوفهم من المارة و توجسهم من الطريق! أتأمل العاملة الآسيوية التي تدندن للطفل بصحبتها أغنية من ارتجالها عن (البقالة ) التي يتجهون لها قبل أن تقف لتحيي أحد سائقي الحي وأقف بدوري التربوي وتخصصي الذي أكسبني لعنة المعرفة وهلع المجهول وأتساءل ماذا لو ؟! لو طويلة وعريضة ومحفوفة بنظريات التحليل النفسي والنمذجة والتنشئة و أساليب المعاملة الوالدية ! تقطع مخاوفي امرأة حامل بصحبة طفل يقود دراجة ويشتكي من نفاد شحن هاتفه النقال ولا يبدو على الأم أي نوايا للاستجابة له ولا لهاتفه! مادامت الأمهات يمشين بطمأنينة ويعبرن كل الأطفال والعاملات والسائقين والسيارات المتهورة ومحلات البقالة دون هلع فيجدر بي العمل على استعادة ضبط مصنعي الداخلي لعلي أتخلص من الحرص الزائد. أحاول أن أصحب ذهني وأفكاري بعيداً عن طفل البقالة وطفل الدراجة و أكلفني بمهمة إحصاء النوافذ التي تركها أصحابها كما هي حرة طليقة فلم يقيدوها بساتر من حديد ولم يغطوا وجهها بستارة من الدانتيل. تنتهي الاحصائية بنافذة واحدة فقط أطيل الوقوف تحتها علّها تشي لي بسرها لكني أتخلى عن فضول المحقق وروح الحكاء ما إن ينبح كلب في الداخل .. ابتسم للعمال الخمسة الذين يفترشون الأرض المجاورة للمسجد و يتشاركون فول ومطبق وأكواب شاي بالحليب، هل جمعتهم (قطة) تخفف عن كاهل الواحد منهم العبء المادي لوجبة كاملة؟ أم هربوا من ضيق الغرفة لرحابة الشارع؟ أو ببساطة توجد في قواميسهم مرادفات لعبارة من نوع ( كل مشروك مبروك)؟ بالمقابل أمام كل بيت على جنبات ممر المشي يقف مغترب عن وطنه وأهله يحرس ما خلف الأبواب ويغسل السيارات ويتناول (فوله) وحيداً. أيهم أكثر سعادة من ينام في جزء من بيت العائلة حتى وإن كان جزء خارجي أقرب للشارع منه لداخل البيت ويتناول طعامه وحيداً أم من يقتسم بيت واحد مع عشرات من بني جلدته و يتناول وجبته معهم على الرصيف؟

أعبُر العمال ، أتجاوز النوافذ ،أترك طفل الدراجة خلفي وأمضي إلى السيارة. تصادفني العاملة وطفل البقالة في طريق عودتهم إلى المنزل وبصحبتهم عاملة أخرى لا أعرف إن كانت صدفة طريق أم تخطيط صديقات. أركب السيارة وأشغل التسجيل الصوتي الذي بعثه لي عامل الستائر الباكستاني ينصحني فيه بتركيب ستارة على النافذة الكبيرة في غرفة الجلوس خاصتي. بعث لي العامل الرسالة الصوتية منذ أشهر بعد زيارة استشارية لمنزلي حاول فيها اقناعي بأن حياتي مكشوفة للشارع ليلاً وكل ماعلي هو أن أخرج حالاً وأقف عند باب البقالة المقابل لنافذتي وأراقب شقتي وسأحظى فوراً بمشاهدة مجانية للداخل، لم ينجح في اقناعي بحجب شقتي عن أعين المارة ولا حجب عيني بغشاوة عن مشاهدة الشارع لكني وعدته بالتفكير والرد متى ماجزمت أمري.

 ضغطت زر التسجيل فوراً وقلت له بحسم أريد أن يأنس المشاة بالنور المنبعث من شقتي وبخلق قصة عني تسليهم، أريد أن أرى من يصحب الأطفال في طريقهم إلى البقالة وماذا يشترون ومتى تستجيب أم تمشي لقضية خاصة بطفلها ، أريد أن أرى طبق الفول الذي يقتسمه عمال عابرون وأشم رائحة خبز التميس الساخن بين أيديهم، أريد أن أسمع نغمة الايمو واللاين و (اشتقت لك ) بلغات مختلفة، لا أريد ستارة..

تغليف و ربما فضفضة

عيناها توحيان بدين عاجل للنوم كذلك وقفتها المغلوبة على أمرها أمام طاولة تغليف الهدايا. بادرتها بالتحية وبابتسامة كمن يعتذر لأنه جاء في وقت غير مناسب. في الحقيقة لا أعرف أيهما كان وقعه أشد أثراً عليها الابتسامة أم التحية إذ انطلقت في الحديث معتمدة مبدأ واحد مقابل عشرة، مقابل كل سؤال يتعلق بتغليف هديتي عشرة استشارات عاطفية! لا تسألوني كيف يتحول تغليف هدايا لجلسة نفسية وفضفضة عاطفية! من باب الدفاع عن نفسي وأني لم أغرِ الفاعلة بشيء لا ترغبه أقول أني لم أصرح لها بآني متخصصة في علم النفس  حتى لا يظن أحدهم أن فضفضتها جاءت تحت ضغط الزبون المتخصص.

هل الهدايا وارتباطها بالعواطف هي الدافع الذي أشعل فتيل الفضفضة؟ ربما و لكن هذا يعني أن هذه الفضفضة ستكون من نصيب طوابير الزبائن التي ترتاد المحل يوميا وهو مانفته حين قالت كمن يدافع عن نفسه دون اتهام ( أول مره أفضفض لعابر)!! ربما روتينية العملية تجعل صاحبها ينهمر دون أن يعي مايخرج من فمه أو ربما ساعات الصباح الأولى التي يكون فيها الواحد منا معلق مابين النوم واليقظة وحديثه يتأرجح ما بين الحلم والوعي! الله وحدة يعلم..

ما  إن إمسكت بالمقص وشرعت في عملية التغليف حتى بدأت بسرد المعضلة العاطفية التقليدية : يحبني وأحب آخر والآخر أحبه و… . سكتة قصيرة تجعلك تضع في الفراغ الكلمة المناسبة: لا يحبني! عدلت من وضعية جلوسي على الكرسي لتتناسب مع ما أنا أمامه ، نزعت نظارتي الشمسية لتتناسب مع وضعية الاصغاء مستعيدة في ذلك أمي حين تتحول من الاستماع للانصات والاصغاء فتنزع نظارتها الطبية وترفع عينها عن المصحف!

 بدت متعبة جدا جدا و بدأ المقص يشق طريقة على ورق التغليف ويشق قلبي معه إذ أرى مساره ينحرف ذات اليمين و ذات الشمال ! أقاطعها: عفوا عزيزتي يبدو أن عملية القص خالفت الطريق المستقيم أقول ذلك بكل لطف وأردفه بعفوا أرجو أن تكملي كلي أذان صاغية (نعم أذان فقط أما قلبي فمع هديتي التي يبدو أني سأستخلف الله في تغليفها).

تسحب الشريط اللاصق من بيته وتكمل ؛ مشكلتي لا أجيد التمثيل وأحب أن أكون واضحة لذا أخبرته أني في علاقة مع آخر ! عيني على الشريط الذي يبدو وكأنه ألصق بجبهة صبي كثير الحركة! هل تخيلت أنها تقوم بتضميد جرحه بعد أن عرف بعلاقتها فاضطرت لوضع اللصق بهذه الطريقه لايقاف النزف بسرعة! في الحقيقة لا أعرف لكني متأكدة أن هديتي بدأت تنزف إن لم يكن مما سمعته فحتما من الطريقة التي تمت معاملتها بها.

تثني طرفي ورق التغليف بينما تضع على الميزان محاسن أحدهم ومساؤ الآخر ؛ يهتم لي كريم معي رغم جفائي ساندني في الظروف الصعبة ! هنا  تميل جهة من ورق التغليف للأسفل أكثر من أختها ! أصلي أن يكون للآخر محاسن مشابهة حتى تتوازن كفتي ورق التغليف لكن الميل مع الأسف يزداد إذ تذكر جفاء الآخر واعتلالات مزاجه! اصرخ: توقفي! قبل أن استدرك وأكمل أقصد توقفي عن هذه العلاقة التي لن تنتهي لشيء.. لكنها تتوقف عن التغليف وتتحسر على طريقة عبادي حين يغني” كثير من الحطب حولي وعندك انكسر فاسي”

تتنهد لأنها مبتلاة بالإخلاص حتى مع الشخص الذي لا يستحق الإخلاص.. أصلي ثانية وثالثة وعاشرة أن يحلّ الإخلاص بهديتي التي تتقلب بين يديها، أصلي لئلا تتخلى عنها وتتركها حتى تعدل ما أصابها من تشوهات عاطفية..

تونس: إجازة زرقاء قصيرة

بعيداً عن الغرب قريباً من القلب، قضيت ستة أيام متنقلة بين مدن تونس الزرقاء وأزقتها العتيقة. نوع من الرحلات التي تقفز بين أصابعك فجأة دون تمهيد بينما تقوم بتعداد كل الوجهات المحتملة لرحلة قصيرة وفجأة يهب اصبع زائد في ذهنك ليقول: توووونس!

تونس كغيرها من دول هذا العالم تأخذ مكانها في قائمتي الطويلة جداً لكن لأكون صادقة لم تكن يوماً وجهة ملّحة وإنما موجودة على سبيل يوماً ما سأزورها حتماً. عطلة تقارب الأسبوع كانت صالحة جداً لأن تكون هي ال (يوماً ما) . بعد أن تم استبعاد تايلاند كمرشح أساسي وعدم تمكن مصر من إثبات نفسها في التصفيات النهائية، ظهرت تونس من مكان قصي في القلب وجموعة بعيدة في قائمة خطط السفر..

تونس لا تحتاج فيزا والرحلة لها قصيرة حتى مع التوقف في القاهرة والأهم من كل هذا وذاك أنها الوحيدة بين الوجهات المقترحة التي فازت بجو مثالي يميل للبرودة يحقق الغاية المنشودة في الهروب من (جحيم) الرياض.. ارتفعت أسهم تونس بعد استعراض خيارات السكن المتميزة وأسعارها الزهيدة..

إذاً تونس ثم ماذا؟ حقيبة سفر صغيرة وفحص كورونا قبل ٢٤ ساعة من الوصول وحجوزات سكن موزعة على (أربع مدن). لا حجوزات اضافية ولا خطط محكمة.

ليست إحدي جزر اليونان

عند وصولي لتونس عرضت بعض الصور لسيدي بوسعيد على الانستكرام وطلبت من المتابعين تخمين الوجهة وقد أخذت اليونان النصيب الأكبر من الاجابات. في الحقيقة مارست شيء من اللؤم وأنا أتفادى تصوير الناس أو قطع السجاد في السوق الشعبي، ركزت على البحر والمباني بهوية سماء غائمة ترتدي الأبيض وتتزين أبوابها ونقوشها بالزرقة. هذه الهوية هي ماشدني للمدينة قبل أن أصلها حتى، الهوية المشتركة مع مدن البحر المتوسط، الهوية الدافئة المعطرة برائحة البحر و المتمددة بأمان على صدره..

دار أو قصر أو فندق بوتيكي

خيارات السكن التي تأخذ بيدك بعيداً عن الفنادق الشهيرة ستكون جزء من التجربة الفريدة في تونس.. في سيدي بوسعيد كان السكن فندق بوتيكي بأربع غرف مطلة على البحر، تحتضنك الزرقة حيثما وليت وجهك. الفندق في الأصل بيت عمدة سيدي بوسعيد ورثه ابنه وحوله لفندق حيث تولت زوجته المهندسة المعمارية هذا التحول من الألف إلى الياء و قد نجحت في جعل الفندق يحتفظ بروح المنزل، فسميت الغرف بأسماء أفراد العائلة مثلا غرفتنا كان اسمها : نانا (عمة صاحب الفندق وأخت العمدة) وزين المدخل بصور أفراد العائلة ورسائل الجد لابنه. العاملين في الفندق لهم روح العائلة، أخت كبرى وأخوة صغار سعيدين بزوار منزلهم الجدد.

في سوسة كان السكن في دار ويكفي مالهذه الكلمة من دفء خاص حتى قبل أن تكمل بقية الاسم الذي سيزيدك دفء : دار انطونيا، انطونيا  البرتغالية الفرنسية حبيبة وزوجة مالك الدار التونسي الفرنسي. دار حقيقية بأربع غرف تتوسطها أرض الديار التي تزينها بحرة ماء ، كل غرفة تحمل اسم نبته عطرية فقد تسكن في غرفة الفل أو غرفة الياسمين  وليس هناك رقة أكثر من أن تنام في حفظ النباتات وعطرها. فطور تونسي ينتظرك صباحا حول بحرة الماء ونزلاء تخالهم أبناء عمومه مجتمعين في منزل الجدّ..

أما تونس العاصمة فانتظرني فيها قصر آخر المفتين العثمانيين بكل الفخامة و (الأوبهة) التي تليق بقصر استغرقت إعادة ترميمه سبع سنوات والكثير من المهندسين الطليان في سبيل التجديد وحفظ الهوية. قصر جاد جداً بحجراته الواسعة و آرائكه الحمراء و مصابيحه الكريستالية وطاهيه الفريد من نوعه الذي يستطيع صنع شكشوكة دون بيض من أجل عيني نزيلة سعودية لا تأكل البيض (:

الأسواق الشعبية

يعرف من حولي أني مفتونة بوسط المدينة القديمة، في كل بلد أزورها أفتش عن المدينة القديمة، أفتش عن الأزثة الضيقة والمقاهي العتيقة والأبواب الملونة . هذا الغرام جعل تونس تملك قلبي بسوقها الشعبي الكبير. التجول في السوق لا يكفيه يوم واحد، إذ ستضيع فيه بين المصنوعات الجلدية، والجلابيات المطرزة، والتوابل و المنتجاته المحلية، والشاشيات (الطرابيش الحمراء). إن كنت محب للأسواق الشعبية فستضيع في أزقة سوق تونس وبين باعته الذين سيتجاذبونك كأربع زوجات تحاول كل واحدة منهن أن تفوز بالزوج في منزلها هذا المساء! وهذه النقطة الأخيرة في الحقيقة هي إحدى سلبيات السوق. من أكثر الأشياء المزعجة بالنسبة لي أن لا يكون هناك سعر واضح للسلعة أو على الأقل أسعار متقاربة! أجد الجلابية ب٧٥ دينار تونسي في محل وفي المحل المجاور ب٣٠ دون أي فرق لا في الخامة ولا اللون ولا النقش! أجد الحذاء ب١٢٠ دينار وفي هبوط سريع يصل ل٦٠ في المحل نفسه! هذا التفاوت الذي لا يستند لمنطق معين يزعجني ومتابعة البائع لي في كل زاوية في المحل وإلحاحه على الشراء يوترني!

لذا الأسواق مكان تجول عظيم لكنه يحتاج مزاج هادئ ونفس ثابتة و فطنه في معرفة القيمة الحقيقية للسلع!

كوب شاهي باللوز

كوب شاهي اللوز هو العلامة المميزة للمقاهي التونسية ما إن تدخل أي مقهى حتى يستقبلك في رأس قائمة المشروبات : شاهي اللوز، كوب شاهي الآتاي وفي أسفله لوز مقشور. في سيدي بوسعيد يمتد أشهر المقاهي على تل مزين بالطاولات الخشبية والمقاعد المغطاة بالسجاد الملون، يطل المقهى على البحر ليمنح زائره أفضل مكان لمشاهدة الغروب. سيدي شبعان مقهى بطراز شعبي يقدم المشروبات والأطعمة. في زيارتي للمقهى كان هناك رجل يتشح عبائه بيضاء ويرتدي شاشيه ويدق على طبل بين يديه متغني ببعض الآغاني الشعبية التي تبدأ بالصلاة على النبي ثم التغني بأسماء الزبائن طاولة طاولة..

 قهوة العالية في بوسعيد مقهى شعبي آخر يقتضي من زائره صعود عتبات قديمة تضع المقهى في المكان العالي الذي يتخذ اسمه منه. أما في تونس فهناك مقاهي حديثه على امتداد شارع بورقيبة ومقاهي أخرى شعبية في السوق الشعبي بالنسبة لي النوع الثاني من المقاهي هو الأحب لقلبي حيث تمتد المقاهي مرتصة بجانب بعضهاالبعض في السوق المغطى ويصدح منها صوت القرآن في الصباح ورائحة القهوة..

دار قمر في سوسة دار قديمة تملكها إحدى عائلات سوسة التي رممتها بدعم من الحكومة وفتحتها لتقديم المشروبات والأطعمة. تستقبلك في ساحة الدار صاحبتها السيدة بديعة وترحب بك لتمنحك شعور (البيت بيتك). الدار بجانب كونها مقهى تعتبر مكاناً لإقامة الأنشطة الفنية والثقافية.

أخيراً كانت تونس خيار لطيف لإجازة قصيرة وسريعة ودون تخطيط.. بلد عربي قريب لا اجراءات معقدة ولا غلاء هي كل ماتحتاجه إن رغبت بشكل مفاجئ في كسر الروتين..

صوت الرحلة

شقة 14: يوم من حياة بناية

السكن في شقة ضمن عائلة من الشقق الموزعة على عدة طوابق يحولك لمراقب من الدرجة الأولى ، هاوي ملاحظة، يراقب، يحلل ويدون ملاحظاته بشكل خفي .. يحولك أيضاً لكاتب لا يملّ اختلاق القصص للأفراد من حوله، خياله يقتات على حركة الشقق وسكانها، ستجد نفسك تخلق لكل جار وجارة قصة ترسم تفاصيلها وتكون الوحيد المسؤول عن حبكتها دون علم أبطالها ..

البطل الرئيسي

حارس برتبة مدير، يوبخك لأنك تقود سيارتك بسرعة ولا تستطيع طبعاً التشكيك في أقواله فهو هنا 24 ساعة حتى وإن لم تراه! بلطف يحلف بطريقته الخاصة بأنه هو الذي سيحمل أكياس التسوق خاصتك ولا يثنيه رفضك وشكرك فأن يكسب معك ثرثرة تمتد صعوداً لمسافة طابقين هي بالنسبة له وجبة دسمة يغري بها جار آخر ليحمل أغراضه ويثرثر معه. هذا النوع من الثرثرة ثمنها بالنسبة له مجرد حمل بضعة أكياس و من يدري قد يتبع هذه الوجبة تحلية من نوع خاص إن أشبعت فضوله وسمحت له بوضع الأكياس داخل الشقة وليس عند عتبة الباب عندها سيلبس قناع المقاول سريعاَ ويلومك على التعديلات التي أحدثتها في مدخل الشقة ويصفق لتعديلات أخرى ويمرر بعض الاقتراحات قبل أن يسمع منك شكراً القاطعة والتي تعني (مع السلامة). مع حراس البنايات تعود لك حلقة when the doorman is your main man من مسلسل Modern Love كل مايدور في البناية يدور تحت نظره وبامتيازات أهمها كاميرات مراقبة وحدة من يملك مفاتيح شاشاتها. يعرف الحارس ساعات دخولك وخروجك ومن بصحبتك وبأي أغنية كنت تترنم عند نزولك من السيارة وشكل مزاجك في الصباح وهل تصطحب كوب قهوتك معك من المنزل أم تشتريه ولديه سجل لكل علاقاتك وتقييمات لها أيضاً. أفكر أحياناً أن حراس البنايات من الضروري أن ترفق أسمائهم وبيانات التواصل معهم كمرجع عند البحث عن عمل أو شريك حياة.

5:30 صباحا

تستيقظ شقق البناية كل واحدة على طريقتها الخاصة. أعرف أن الجار في شقة 10 استيقظ بمجرد أن أبدأ في السعال كإشارة على أن أنفي التقط دخان سجائر قادمة من البعيد.. صوت القرآن بدأ يتسرب في الممرات، الأم في شقة 3 استيقظت وبعد نصف ساعة ستوقظ طفلها.. حتى لا يفتقدني أحد منهم وحتى أطمئن الجميع أني استيقظت (إن كان يعنيهم كما أتخيل) ما أن أفتح عيني حتى أدير الراديو على محطة Swiss Jazz.. حليب الزنجبيل يغلي وتنتشر رائحته في البناية إذا العائلة في شقة واحد قد استيقظت.. صوت الخلاط الكهربائي يبدأ بارتباك ثم ينطلق بسلاسة هي طريقة السموثي الأخضر ليخبر جميع سكان البناية أن الجار ذو العضلات المفتولة مستعد للخروج.. الأطفال دون سن المدرسة وأصحاب الشركات ومن لا عمل له لا يشارك في جلبة الخامسة والنصف.. أصنفنا في ذهني لحزبين : حزب الخامسة والنصف وحزب إلى أن يشاء الله. الأخير نائم إلى أن يشاء الله لجنبيه أن تشتكي من مرتبة السرير أو أن يذكره منبهة أن هناك عمل عليه أن ينجزه أو غداء عليه أن يحضرّه..

3:30 مساء

وجبة الغداء في البنايات تقول الكثير عن قصص أصحابها.. الأم في شقة خمسة المقابلة لشقتي والتي لم أتقاطع معها ولو مرة أعرف أنها تقدم وجبة الغداء عند الساعة الثالثة والنصف.. عند الثالثة يبدأ صخب : أغسلوا أيديكم، ساعدوني في ترتيب السفرة، أحضر الماء ، قرب الكراسي من بعضها وضع غطاء السفرة.. عند الثالثة والنصف تماماً موعد اتمامي لإدخال الرقم السري في مفتاح باب شقتي بعد العودة من الدوام كل يوم اثنين تدخل معي رائحة الطاجن القادمة من شقة 4، أكتفي بالسلطة يوم الإثنين حتى لا أفسد على الجارة رائحة الوطن ولمة العائلة وطعم الحنين..

الجيران في الطابق السفلي تقدم وجبة غدائهم عند الثالثة والنصف تماماً، موعد عودة الأب من العمل و إيقاظ الأطفال من قيلولتهم.. غداء أمهات حقيقي، كبسة (مكشنّة) يبدو أن الأم وضعت كل حب الدنيا الذي تحكي عنه شرين فيها حتى أن رائحتها تطاردني أثناء صعود الدرج لتعيدني لأيام الطفولة والمراهقة وكبسة أمي المتقنة. نعم كبسة الجارة متقنة أتخيل كيف أن البصل مقطع بدقه مكعبات صغيرة جدا ومتبل بطريقة موزونة لا يطغى فيها طعم على أخيه أما حبات الأرز فقد تم طبخها بعناية لم ينهرس شيء منها ولم يستعصي شيء منها على الطبخ. صدقاً في كل مره أشم كبسة الأم أصلي وأنا أصعد لشقتي علّ الله يكرمني ويكون لي نصيب من هذه الكبسة من باب الجار للجار أو الجار أولى بالمعروف أو حتى كحق جار على جاره أن لا ينبش كل هذا الحنين في صدره ثم يتركه ليرويه بعدس وبرغل خشن.

أول شقة في الدور الأرضي عميل مميز لجاهز ، أعترف أن الفضل يعود له في تعريفي بأن هناك مطعم اسمه (أميمتي). يبدو أن الجار من نوع ” أنا عندي حنين” لكنه يعرف جيداً ان حنينه لطبخ الأمهات لذا يتناول غدائه من يدّ (أميمتي). أتساءل لأي درجة يمكن أن يكون سعيي مشكور لو اقترحت على شقة خمسة أن تبيع كبستها على العزاب والعازبات في البناية من فريق ” عندي حنين” بمقابل مادي تكسب منه دخل شهري وتكسب معه مطابخنا ” ريح الأمهات”. عموماً إن نجح التفاوض مع الجارة فإننا حتماً سنتوسع ونطلقه على برامج التوصيل تحت مسمى ” كبسة جارتنا”..

سأمارس التجاهل تجاه بعض الشقق ولن أقف عندها كثيراً. مثلا: الشقق التي تستخدم الثوم1 بكثرة حتى لا تعدّ تميز ما إذا كنت في شقة أم في محل شاورما. الشقق التي تبدو قادمة من كوكب آخر لا تعي مخاطر الدهون ولا تقرأ عن انسداد الشرايان ولا يرعبها ارتفاع نسبة الكولسترول فلا يتسرب من شققها سوا رائحة الوجبات المقلية. أفكر أحياناً في دس مجموعة من أحدث الدراسات عن مخاطر الدهون تحت أبواب هذه الشقق علها تصادف لحظة وعي وبصيرة..

هناك شقق بيضاء، لا رائحة لها، لا توابل ولا بصل ولا خشخشة خضار طازج ، لا شيء لا شيء أبدا يمكنك من التعرف على هوية السكان ، نظامهم الغذائي، أسلوب حياتهم ، مواطن الحنين لديهم.. !  

7:00 مساء

أسميها قهوة المغرب مع أن المغرب بالنسبة لي هو وقت استكشاف أنواع الشاي والأعشاب طيبة الذكر، عرقسوس ، زنجبيل ولافندر، مرامية ..الخ . لكن الطقس العام في كل الشقق العائلية؛ قهوة! هيل برائحة حادة يتسرب من شقة ويصدم برائحة مسمار مندفع من شقة أخرى يلتقون في الممر كأنهم في مجلس سياسي قضيته أي شقة يغزون؟ طبعا سيقع اختيارهم على الشقق البيضاء التي لا تغلى فيها القهوة وفي خجل شديد أقول لا يوجد لديها بن من الأساس. اكتشفت مؤخراً طقس مصاحب لقهوة المغرب، طقس نسائي سري وقعت عليه بينما أنزل الدرج في أحد الأيام- بالمناسبة استخدام الدرج بدلا من المصعد في عالم البنايات يكشف لك العوالم الخفية للبناية- تجمع نسائي وشى به حذاء كالفن كلاين الفضي المتروك عند باب إحدى الشقق ! خرجت صاحبته فجأة لتبدو كمن يطمأن عليه لكن يبدو لي أنها أرادت أن تطمئن على الخطوات التي كانت تنزل الدرج، تريد أن تتأكد أن طفلتها التي تركتها نائمة في الشقة ليست صاحبة هذه الخطوات. فهمت أخيراً سرّ الضوضاء والأحاديث التي تخترق صمت شقتي في المساء ولا تستجيب لمحاولاتي اللطيفة لإسكاتها عن طريق فتح النافذة وإعادة إغلاقها بقوة.. هذه المنظمة السرية لا يصلني منها سوى جلبة لا أستطيع فك شفراتها ولا هوية أعضائها، كل ماأستطعت رصده عنها أنها اجتماعات يومية تبدأ بعد المغرب مباشرة وأخلد للنوم عادة قبل أن تنتهي. أيضاً العلاقة طردية بين الوقت وحماس الجماعة كلما تأخر الوقت كلما علَت الأصوات أكثر واختلطت ببعضها وتسائلت هل يسمع أحد منهم أحد أم مجرد تنفيس، الكل ينطلق ويفرغ مافي جعبته من ثرثرة قبل أن ينتهي الوقت المحدد!

10:30 ليلاً

الحارس يلعب (ببجي)، الأزواج في الخارج، الأطفال نصف نائم ونصف يغني (الغزالة رايقة) ، لازال اجتماع المنظمة النسائية السرية ممتد، جار حريص في كل ممرّ على أن يخفض إنارة المصابيح عند العاشرة وجارة2 حريصة تنزل لتغلق الباب الرئيسي للبناية دون أن تعبء بالأزواج حين يعودون من سهراتهم غاضبين مضطرين لإيقاظ زوجاتهم أو الحارس لفتح الباب..

1للأمانة الثوم خيال بحت بنايتنا بريئة منه

2الجارة الحريصة قد تكون أنا

ليالي الأنس في فيينا

الذاكرة الوحيدة التي تربطني بالعاصمة النمساوية (فيينا) قبل أن أزورها؛  ذاكرة سمعية تتمثل في أغنية (ليالي الأنس) لأسمهان ولطالما تخيلت نفسي راقصة ليلاً على هذه الأغنية في شوارع فيينا ..  النمسا بشكل عام لم تكن يوماً في قائمة أولويات الزيارة بالنسبة لي ، شيء خفي يبعدني عنها! ربما كثرة تكرارها على  ألسن زوارها وكثرة حضورها كوجهة سياحية حتى بدا لي وكأني زرتها! أنا التي أعشق روما بينما يراها السياح العاصمة الأوروبية الأقل مستوى ولا أحمل مشاعر بعينها تجاه لندن رغم أني قضيت سنوات في بريطانيا وأحببت مدريد بينما كان الكثير ينصحني بعدم زيارتها وتعلقت بمالطا ولشبونة فيما كرهت جنيف هذا التاريخ الشخصي الموجز عن علاقتي بالمدن الأوروبية ربما يفسر بالنسبة لي على الأقل بقاء فيينا في مدن الحياد لا أكره زيارتها لكنها ليست أولوية ..

نهاية السنة الماضية 2021 كانت عصيبة بالنسبة لي مع الكثير من التحديات لذا كنت أتطلع لنهاية الفصل الدراسي ولإجازة مابين الفصلين. مع الكورونا وتبدل إجراءات السفر كل ليلة حاولت تضييق خياراتي على الوجهات السهلة نوعاً ما التي لا تحتاج تأشيرة أو لدي تأشيرة مسبقة صالحة لها، لا تطلب أي شكل من أشكال العزل وأخيراً أماكنها العامة مفتوحة بشكل طبيعي.. انطبقت الشروط على عدة مدن لكني اخترت المدن التي لم يسبق لي زيارتها ومنها فيينا.

هُنا فيينا (وصول ليلي)

وصلت فيينا بالسيارة من براغ (3 ساعات ونصف) ، كان الوقت ليلاً فكان الفندق هو الوجهة خصوصا أن المطاعم والأماكن العامة تغلق تماما عند العاشرة مساء.

حب من أول نظرة

هل حدث وأن كشفت لك مدينة عن ساقها من أول لقاء ؟ هذا مافعلته فيينا حين استقبلتني بفندق مختبىء في أحد الأحياء، دفعت بابه الخشبي الأحمر الداكن لتستقبلني أرضية الشطرنج والجدران الحمراء الداكنة وثريات الكريستال.. ما إن قرعت الجرس الذهبي الصغير على منضدة الاستقبال حتى وصلت الموظفة بشعرها الأشقر القصير وروحها اللطيفةوزيها الأخضر، ناولتنا المفتاح ذو الميدالية الحمراء (أعتقد أني الوحيدة في العالم التي فتنت بمفتاح غرفة فندق) مررت عليها وعلى بقية الموظفين هذه الدعابة (ممكن آخذ المفتاح تذكار) مرات كثيرة لكنهم قابلوها بدعابات تحول بيني وبين المفتاح على طريقة (انسي الموضوع). أما الغرفة فأخشى أن يظلم وصفي الأثاث المصنوع من خشب الراتان ،  أو يبخس حق الراديو الكلاسيكي على طاولتها أو يحط من هيبة ثريا الكرستال فوق رأسي (لا عجب أنت في النمسا) لذا سأكتفي بأن أقول كنت في غرفة معدة لتصوير فلم كلاسكي أو دعاية عطر لعارضة بفستان سهرة أسود كل مافيها مدهش ومعتنى بتفاصيله بدءً من الجدران الحمراء التي احتضنتني بدفء مرورا بأرضية الشطرنج وانتهاء بالكرسي الأخضر المخملي. كل ملامح الفندق تبشر بمدينة متأنقة لا تعرف لغة غير الفن حتى في فنادقها ، هذا هو المعتاد والطبيعي فلا تحتاج لدفع مبالغ طائلة للحصول عليه..

أحد الموظفين اقترح علي ان أقوم بتصوير المفتاح عوضاً عن أخذه كتذكار!

طعام لذيذ ودافئ

من الأسئلة اليومية التي تهمني في أي مكان: أين سأتناول الفطور؟ قد يبدو السؤال تافه جداً لكن لشخص يعاني من مشاكل معدة معقدة ومن وساوس تتعلق بالصحة وزيادة الوزن ومن شهية معادية للبيض (أهم عنصر غذائي في قوائم الفطور حول العالم)  فإن هذا السؤال مهم جداً عند زيارة أي بلد. فيينا مدينة تملك إجابات مثالية ومنوعة لسؤال من هذا النوع.. بين كل مقهى ومقهى هناك مخبز ويقابلهما مطعم للفطور والفطور المتأخر. هذا التنوع العظيم أنقذني من قوائم الطعام التي تغص بالبيض غالباً ووهبني خيارات الأفوكادو والحمص بنكهاته المختلفة والجرنولا والمخبوزات المنوعة.. ركزت على وجبة الفطور لأنها فاتحة اليوم والوجبة الرئيسية بالنسبة لي لكن بشكل عام لم يكن صعباُ أبداً الحصول على مطعم على بعد خطوات من أي نقطة أقرر التوقف فيها في أي وقت، دائماً هناك أماكن متميزة لتناول الطعام؛ مطعم يختبئ في حديقة صغيرة وآخر يمتد برحابة تحت سقف زجاجي تملىء أرضه النباتات.. قوائم ممتلئة بالطيبات والأهم لا تحصر الزبون في زاوية اللحوم! دفء المطاعم وتصاميمها المختلفة وأطباق شوربة القرع الممزوجة بزيت القرع جعلت اللقاء مع مطاعم فيينا لقاء للذاكرة لا يخبو ولن ينسى..

من هنا اكتسبت حالياً عادة اضافة المانجو لشريحة توست الأفوكادو وإن كان الشكل الذي انتهي له يبدو مقلداً بشكل سافر

بيوت القهوة

 الحديث عن مقاهي فيينا يبدأ ولا ينتهي.. يبدأ بأنها تُعرف باسم (بيوت القهوة) وتم تصنيفها من قبل هيئة اليونسكو للتراث ضمن قائمة التراث غير المادي. إذا كان الناس حول العالم يذهبون للمقاهي بهدف شراء كوب قهوة فإن الناس في فيينا يذهبون للمقاهي بهدف حضور النقاشات والجلسات الأدبية والحوارات كل هذا مقابل كوب قهوة . في مقاهي فيينا ستجد سيجموند فرويد وستيفان زفايغ والكثير ممن لازالوا يرتادون المقاهي للنقاشات ، والأهم ستجد المقاهي في كل شارع وركن وستجد خيارات الحليب النباتية متوفرة غالبا (: المظهر الكلاسيكي للمقاهي العريقة والخدمة التي تفوق خمسة نجوم بدء بمدّ المفرش الأبيض على الطاولة أمام عينك بطريقة كلاسيكية تخيّل لك أنك أحد أبطال داونتون آبي ثم تزويدك بالماء المجاني كل فترة وعدم استعجالهم لك بأي شكل من الأشكال وكأنك الزبون الوحيد يجعلك تفهم السرّ في اتخاذها مقر عمل وعنوان مراسلة من قبل بعض الأدباء والصحفيين المشاهير الذين كانوا يقضون جلّ وقتهم فيها. من هنا فهمت أيضاً اتخاذ مانديل بطل رواية (مانديل بائع الكتب القديمة) لأحد مقاهي فيينا مقراً له ومكتباً لعمله مما يشير لأن هذا الوضع كان سائد ومتعارف عليه في فيينا .. الصحف المصفوفة على طاولة خاصة في جميع المقاهي أو المعلقة على لوح خاص تجعلك أيضاً تفهم ستيفان زفايغ حين يقول في إحدى رواياته وفي وصف أحد مقاهي فيينا القديمة ” ستجد أناس يستهلكون الصحف أكثر من استهلاكهم للمرطبات”

كيف تقضي وقتاً لطيفاً في فيينا؟

هذا السؤال يمكن أن تسأله في أي مدينة عدا فيينا ، إذ أن الإجابات كثيرة بمجرد أن تخطو قدمك خطوة خارج مكان سكنك ستصادفك المتاحف وصالات العرض الفنية والقصور (الحقيقة لا تستهويني القصور إلا لو كان فيها مناسبة معينة كحفلة موسيقية أو معرض فني) والكنائس التي خصصت المساء للحفلات الموسيقية.. ستضع فيينا أمامك مائدة فنية موسيقية عظيمة وستترك لك الخيار وهذا كل مايحتاجه شخص مثلي ؛ الفن والموسيقى والأدب ثم التسكع هائماً في الطرقات .  النهار كان من نصيب المتاحف والمعارض الفنية حيث تغلق ابوابها عند الساعة السادسة مساء أما الليل فما تيسر من حياة المدينة، في إحدى الليالي حضرت أوركسترا لكن بطريقة كوميدية مختلفة. وفي ليلة أخرى ألغت إحدى الكنائس الحفل الذي كنت أنوي حضوره لكنها مرة أخرى فيينا لن تضيع فيها ولن تسأم..

خذني معاك ! لا تنسى في زيارتك لفيينا أن تجرب زيت القرع الشهير، في الحقيقة حتى وإن نسيت فإن المطاعم لن تنسى اضافته لبعض الأطباق والتي على رأسها شوربة القرع لكن سأوصيك بأن تحمله معك كتذكار تزين به شريحة ساور دو مع جبنة الفيتا في صباحات الجمعة.. إن كنت من عشاق الكيك تحديداً ماكان بنكهة الشوكولاتة فلا تنسى كيكة الساخر في موطنها الأصلي تحديداً في مكان ولادتها : فندق ساخر. هذه الكيكة تعتبر أيقونة الكيك ويتم اعتبارها جزء مهم من الإرث النمساوي حتى أنهم وضعوا يوم خاص باسمها سنوياً يتم الاحتفال فيه بهذا الإرث!

إن وقعت في غرام هذه الكيكة فتطمن المحل لديه توصيل للسعودية لكثرة مريديها وتستطيع أيضاً حملها في صندوق مزين من المحل، أما أنا فلا زلت في صف كيكة التمر خاصتنا كأيقونة للكيك..

سرّ الهيام

فيينا فاتنة معجونة من الخليط المفضل لي؛ شوارع حية بناسها، ساحات يتناول الناس الطعام في الجلسات الخارجية لمطاعمها، أكل منوع ولذيذ ، مقاهي كلاسيكية ومقاهي حديثة كبيرة وصغيرة، مباني عريقة وفن فن فن في كل مكان والروح دائماً تواقة للفن، تُزهرّ بلوحة وتنمو بمنحوتة.. أيضا المدينة كأي مدينة أوروبية كل نقطة مهما بعدت إلا أنها لاتزال في حدود القدرة على المشي الأمر فقط بحاجة للياقتك و لجو لطيف وإن تعذر أحدها فالترام موجود. المدينة حية مبهجة رغم أنف الكورونا ورغم السؤال المتكرر عند دخول أي مكان عن شهادة اللقاح ورغم اشتراط نوع معين من الكمامات. أيضاً لن أنسى الناس الذين تفاعلت معهم وصادفتهم في هذه الأيام القليلة كانوا من اللطف لدرجة أن أحد كبار السن في أحد المقاهي حين عرضت عليه صورة ستيفان زفايغ كأحد رواد المقهى فتح معي محادثة بالألمانية واستمر فيها رغم ترديدي لكلمة : انجليزي انجليزي !! لكنه استمر مبتسم مبتهج على طريقة ستفهمين ستفهمين كذلك السيد الذي قابلته عند متحف فرويد وكان يرطن بالألمانية ويضحك هنا استخدمت تكنيك تسميه صديقتي هتاف (الفهم بالبوهة(الهيئة)) ففهمت أنه يقترح أن أصور أمام باب المتحف.. أخيراً، كل ماتم ذكره يتوفر في أماكن كثيرة لكن تظل للمدن روح خفية تتعدى الوجود المادي هذه الروح هي مايلمس الزوار ممن يرون المدينة بأرواحهم قبل عيونهم وقد لمست روح فيينا روحي فابتهجت وأحببت وردتت مع أسمهان “ليالي الانس في فيينا ،، نسيمها من نسيم الجنة” ..

بالمناسة فيينا كانت تسمى (فيندوبونا) ومعناه الهواء الجميل أو النسيم العليل، تحسباً  لو تسائلتم عن مقطع (نسيمها من هوا الجنة ).

اليونان: بعيداً عن سانتوريني وميكونوس!!

ظلت زيارة اليونان تتصدر قائمة أمنياتي لسنوات، احتفظت بها وعاملتها بقداسة بانتظار وقت يليق لتنفيذها وخطة مدروسة تستحقها أرض الحضارات والآلهة. شيء من الهيبة ظل يحيط اليونان ويرجئها من سنة لأخرى حتى جاء صيف هذه السنة وكانت اليونان واحدة من دول قليلة تستقبل السياح دون اشتراطات صارمة أو صعبة ويبدو أن هذا الخليط : بلد عظيم دون شروط صعبة (لا حجر مؤسسي ولا منزلي) مغري للكثير فلم أكن الوحيدة التي حاولت في يونيو الحصول على التأشيرة الكثير فعل مثلي مما جعل أقرب موعد يمكن الحصول عليه بعد شهرين!!  عدلت سريعاً عن الفكرة وغيرت وجهتي.

أثناء قضائي للعطلة في وجهتي البديلة (بريطانيا) كانت صديقتي أولغا اليونانية المقيمة في لندن تستعد للسفر لليونان لقضاء إجازتها السنوية. منذ عرفت أولغا وأنا أراها قبيل السفر لليونان وأثناء الاستعداد له تبدو كمن يُبعث من جديد، الكثير من الفساتين الصيفية الملونة ، صنادل الشاطئ، القبعات، طلاء الأظافر بألوان مشرقة والكثير من الحياة في كل ماستحمله في حقيبتها. الحياة المضادة للجينز الأزرق والجزمة الرياضية وحقيبة الظهر. صاحبت أولغا في بعض جولات التسوق وكنت الحاضر الوحيد لعرض أزيائها اليونانية في غرفة الجلوس خاصتها،  كنت أصفق لكل فستان قبل أن يأخذ مكانة في الحقيبة التي ستطير لليونان. لم يخطر ببالي ولو للحظة أني سأرآه مره أخرى لكن في مشهد حقيقي وعلى أرض الواقع اليوناني. قرب عودتي للسعودية اخبرت أولغا أنني ربما أسافر لوجهة أخرى لا اعلم أين لكن مازلت لم أنته من الصيف ولم تنتهي العطلة مني ودون ديمقراطية في مساعدتي باستحضار وجهات مناسبة بادرت قائلة: تعالي اليونان؟ هذه المره لم تكن مثل السنوات الماضية التي تقول لي فيها لا بد أن تزوري اليونان وأجيب طبعاً قريباً وينتهي الأمر. هذه المرة كانت الصيغة آمره أتبعتها من جهتها بخطة واضحة تقفل علي باب أعذار الوقت والخطط وغيره. أقنعتني باجازة نهاية أسبوع طويلة فقط في منزلهم على الشاطئ. أمام دهشتي أنا التي قضيت سنوات أحمل اليونان في قائمتي كالذي يمشي بهدوء لحلم عظيم ويخشى الوصول له وبين ترددي و واغراءاتها وصلنا لحل في المنتصف؛ إن حصلت على موعد تأشيرة فازت خططها وإن لم أحصل أبقيت على مهابة اليونان في قائمتي..

منزل عائلة أولغا الصيفي على أحد شواطىء لافيرو

الطريق إلى أثينا

فازت اولغا وطرت لليونان.. أثينا أول محطات الرحلة، مدينة القدوم والعاصمة ومحتضن البارثنون. عندما هبطنا من الطائرة لاحظت أن أغلب المسافرين  توجهوا لاكمال رحلتهم داخلياً إلى ميكونوس أو سانتوريني حتى أن أحد المسافرين اليونانين في الطائرة توجه لمجموعة من الفتيات وسألهم بكل ثقة وبابتسامة العارف : ذاهبات لميكونوس ؟ كنت أراقب الحوار وأقول في نفسي لماذا يعتقد أننا لا نعرف سواها حتى أجابته احداهن بنعم وسكت حديث نفسي.

ما إن تعديت منطقة الجوازات واستلام الحقائب حتى وجدت أولغا بانتظاري. شعور دافئ  أن يكون لك صديق في كل بلد وكأنه سفير بلده الخاص بك وحدك أو قريبك الذي يمنحك امتياز ال (منهم وفيهم) فلا تسأل الاستعلامات عن موقع الباصات أو القطارات ولا تبحث عن جدول مواعيدها ولا تستقل أول سيارة أجرة وتمد العنوان لسائقها بلغته التي لا تحاول العبث معها وقراءتها ثم ينتهي مالايمكن اعتباره حوار بك محتلاً المقعد الخلفي غريباً في مدينة لا يعرفك فيها أحد. وجود صديق لك في أي بلد تزوره لا يجعل منك مجرد سائح غريب وإنما (صاحب محل). في السيارة بجانب صديقك وليس خلف سائق التاكسي تحظى بثاني امتيازاتك؛ مرشد مخلص تماماً يحدثك عن كل ماتمر به ويجيب تساؤلات الطالب بحب المعلم الشغوف الذي لا يهاب الأسئلة.

مسرح هيروديس أتيكوس

البارثنون

مشينا صعودا لجبل الاكروبوليس للوصول لهذا المعبد الإغريقي الذي يمد عنقه ليتفقد أرجاء أثينا فتراه فيها حيثما رفعت رأسك. تجمع زيارته بين الهايكنج صعودا له وتجوالاً حوله  وبين الإطلالة العظيمة التي تقول لي أولغا عنها: أرأيتي منيرة حصلنا على اطلالة مجانية  على أثينا. في ليالي الصيف كانت تقام بعض الأمسيات والعروض الحية في مسرح هيروديس أتيكوس في منطقة البارثنون لكن مع الجائحة توقفت وكلنا أمل أنها ستعود وسنعود لأثينا لنعيش شرف التعرف على الوجه الأصلي للمسرح.

بلاكا (المدينة القديمة)

أجد في المدن القديمة فتنة مختلفة روح خاصة تجعلني أقع في غرامها مرة بعد الأخرى ومدينة بعد أخرى وهذا ماقدمته لي بلاكا. الأزقة الضيقة ، المطاعم والمقاهي المصطفة على العتبات بمراتب وطاولات ملونة وكأن أثينا تصرّ على المحافظة على هويتها المسرحية في كل زقاق فيصطف الناس على العتبات ويكون الشارع مسرح مفتوح دون تذاكر. الجدران والأبواب الملونة والنوافذ التي لا تقل عنها لوناً، محلات التسوق الصغيرة بتذكارات البلد المرتبة على جدرانها، السياح وهم يتحولون لعارضي أزياء يتموضوعون بطرق  احترافية أمام الكاميرا كل هذا يجعل وسط المدينة القديمة معرض فني مجاني بلوحات محلية وعالمية تحرّك المصور بداخلك والروائي والعاشق المتيم .

زيارة بلاكا مع البارثنون هي ماكنت أحمله في أجندتي الهزيلة. تسكعنا في المدينة القديمة والتسكع هوايتي المفضلة في السفر بل إنها الغاية التي أسافر لأجلها مؤخراً، أسافر لأتسكع في الطرقات لأضيع فردا بين الجموع يجد نفسه كل مره أمام دهشه جديدة لأنه لا يحمل خارطة تقتل الدهشة وتخبره مسبقا أين ستقوده خطاه. العجيب أن سعادة أولغا ودهشتها تنافس سعادتي ودهشتي وكأنها المرة الأولى التي تزور المكان مبررة ذلك بأنها أخذت جمال بلاكا كمسَلمة منذ سنوات فلم تعد تستشعره! أعتقد أن الوقوع في فخ المسَلمات هو مايقتل الاستمتاع البسيط بالحياة ومافيها.

الطعام

لم نلجأ لفورسكوير ولا ترب أدفايزر ولا غيرها من التطبيقات لاختيار المطاعم التي سنأكل فيها أو المقاهي التي سنحتسي قهوتنا فيها. كل ما زرناه كان دون معرفة سابقة لكن بإيمان عميق أن الطعام في اليونان لا يمكن ان يكون إلا لذيذ أو لذيذ. أحيانا نعتمد الازدحام في المطعم كمؤشر لكن بالغالب جميع المطاعم مزدحمة واحياناً شكل الأطباق على طاولات الزبائن كما أن تركيزنا على مطبخ واحد وهو اليوناني فقط سهل من العملية إذ أن أي مطعم يقدم صنف آخر كنا نستبعده تماماً .

أخيراً قابلت السلطة اليونانية على أصولها بعد سنوات من العلاقة العاطفية عن بعد. جلست أمامي بزيها المعتاد أحمر أخضر بنفسجي وقبعة بيضاء مزينة بنقوش خضراء . هذه السلطة الأبسط مكونات بين السلطات والأعظم نكهة مابين حلاوة الطماطم وملوحة جبنة الفيتا وحمضية الزيتون خليط متجانس يدلل حواسك وينقل خبراتك مع المذاق لبعد آخر. بين كل لقمة والأخرى التفت لأولغا وأتساءل: أنا أستخدم نفس المكونات تماماً و أضع الجبنة بنفس الطريقة كلوح كامل يعلو رأس السلطة وأرشها بالزعتر البري لكن لا أحظى بذات المذاق!! تضحك وتقول المكونات طازجة زيت الزيتون من المزارع وليس مستورد.

في اليونان الطعام لذيذ جدا ورخيص، اللحوم لها شعبية كبيرة خاصة السوفلاكي (الشيش طاووق) والجيرو (الشاورما) الأمر الذي جعلني أكسر حميتي الغذائية القائمة على عدم تناول اللحوم الحمراء والدجاج. تناولت ساندوتش الجيرو (شاورما الدجاج) لأول مره بعد أكثر من ثلاث سنوات من القطيعة على اعتبار أنه أحد معالم البلد الأساسية والتي يجب الوقوف عليها (لم تتألم معدتي وهو ماكنت أخشاه لكن أيضا لم أشعر بلذة خاصة وأعتقد أن الخلل فيني لذا اكتفيت بمرة واحدة فقط) ..

الجزر

الحديث عن اليونان يعني الحديث عن أكثر من 2000 جزيرة، يحتاج المسافر لأشهر لاكتشافها والتجول بها بقلب مفتوح على الجمال الخاص بكل جزيرة. التنقل عبر الجزر متاح جواً وبحراً، غالباً التنقل البحري عبر العبارات هو الوسيلة المفضلة خاصة للسكان المحليين أما السياح فالبعض قد يفضل اختصار المسافات بالطيران. في رحلتنا زرنا جزيرتين: جزيرة كيا و جزيرة ناكسوس. الأولى صغيرة غير مشهورة أبدأ لكنها مزار صيفي للسكان المحليين وبها عدة شواطئ قضينا نهارنا على شاطئ كوندورس (أكبر وأفضل شواطئها) . أما الثانية فهي من أكبر جزر اليونان ولا تقل جمالاً وحياة عن الجزر المشهورة لكنها ربما تقلّ صخباً، بها أيضا عدة شواطىء متفاوته مابين الكبير المعروف ومابين الصغير الهادىء (وإن كنت لا أؤمن بوجود شاطىء هادىء في الصيف اليوناني)

برنامجنا في الجزر محدد النهار كله على الشاطىء مابين البحر والاسترخاء ومراقبة سلوك الناس وهو لعبتي المفضلة في السفر ومابين شرب القهوة المثلجة والعصير وتناول وجبة خفيفة. المساء نتسكع بين الأزقة المرصوفة بالحجر الرمادي والجدران البيضاء والأبواب التي تغلبها الزرقة ويزاحمها قوس قزح من طاولات المقاهي وديكورات المحلات. لوهلة تشعر أنك بطل في مشهد من رواية حالمة يفتح فيها أب باب بيته ليجد بجانبه مطعم وأمامه محل مشغولات يدوية ويزاحم زقاقه الكثير من العابرين (ياالله إنا نسألك دفء الجزر ونعيمها). نختم تسكعنا بوجبة العشاء التي تمتد لساعات وهو ما أعرفه جيداً عن اليونانيين وأعتقد عن جميع شعوب البحر المتوسط: الوجبة حدث اجتماعي ممتع وليس تأدية واجب لاسكات المعدة.

الريفيرا الأثينية (بحيرة فولياجميني)

تبعد ساعة بالسيارة عن لافيرو، الطريق إليها متعة بحد ذاته خاصة إذا ماكان مصحوب بأغاني يونانية قديمة لا تفهمها لكنك تطرب لها (: تصطف الجلسات على مدار البحيرة التي سميت بهذا الاسم والذي يعني (الغارقة) نسبة لما يقال عن وجود مدينة ضائعة غارقة تحت البحيرة.. مياه البحيرة تستخدم للاستشفاء ومعالجة امراض المفاصل ومشاكل البشرة. تحوي الكثير من الأسماك الصغيرة التي تقدم لقدميك مساج مجاني.. هناك أيضاً منتجع صحي الدخول له خلف البحيرة وبين الأشجار نزهة بحد ذاتها وهو ما تبدو موظفة الاستقبال متاكدة منه وهي تقول لي بابتسامة : اسمحي لي الآن بمفاجأتك بينما تقودني وسط الأشجار وأصوات العصافير والموسيقى وصولا لسرير تقدم عليه خدمة التدليك .

حكايات الشواطئ

اللعبة المفضلة ؛ مراقبة الآخرين والتقاط حكاياتهم بقلب مرهف. أراقب كيف يقضي أب قرابة ساعة يغطس في البحر بشبكة صغيرة لأكتشف لاحقا أنه يحاول العثور على لعبة صغيرة سقطت من طفله وأسقطت ابتسامته. أراقب كيف تلعب (نولا) ذات السنتين مع اخوتها ومجموعة من الأطفال بينما تأتي والدتها كل ربع ساعة وتحمل إناء بلاستيكي تجلب فيه ماء من البحر وتتحدث بحنان بالغ معها ويبدو أنها تخبرها حتى لا تتفاجىء بأنها ستسكب الماء على جسمها حتى تحافظ على الرطوبة أمام شمس لا ترحم وحين تغيب الوالدة تأتي سيدة أخرى وتلعب مع (نولا ) نفس الدور. أراقب كيف يحضر بعد الظهر زوجان في أوائل الستينات وكأنهما بزل مكون من قطعتين فقط لكنه يحمل صورة كبيرة جميلة وعظيمة، كل فعل من الزوج يقابله فعل متناغم من الزوجة دون اتفاق مسبق ودون غمزة عين حتى! الشعر الفضي لكلاهما ، النظرة التي تخبر من أي خلفية اجتماعية جاءا، السيجار الالكتروني في اليد اليمنى لكليهما، الدخول للبحر بجانب بعض والخروج دون أن يكسر البحر هذه المسافة التي يبدو انها أعمق منه. يأخذان غفوتهما على الشاطئ وأغفى معهما أفكر : حبيبان منسجمان تزوجا أم زوجان تحابا فانسجما؟ غفيت في هذا الشاطىء على المعنى الأعمق من الحب واستيقظت في شاطىء آخر خلف الفندق الذي نزلنا فيه في جزيرة ناكسوس على النادل يمد لي فاصل كتاب ويخبرني أنه عثر عليه في بقعة ما على الشاطئ، الكثير غيري بيده كتاب والفاصل لم يكن قريب منا بل جلبه من بقعة بعيده لكنه فعلا لي وكيف لا أعرفه وقد كتب عليه ” ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا” أتراني الوحيدة التي ينبىء وجهها بأنها فقط بحاجة لسبيل هذا طبعا إذا افترضنا إجادته للعربية!

البنت الحلوة (نولا) وآثار حنان الأم على جسدها

 الشعب اليوناني

يكفي أن أقول لا حاجة مع اليونانين للقلق فيما يتعلق بالتقبل واللطف ، ستكون بسلام وحب بينهم. اضطرت أولغا مره لاستخدامي لاقناع العاملة اليونانية بأهمية حصولنا على كراسي ممتازة على الشاطىء وأنه من غير المعقول أن تقول أنها جميعها محجوزة وتحرجها أمام الضيفة السعودية المتحمسة لليونان وأهلها. تراجعت الموظفة أمام الكرت الذي لعبت به أولغا واعتذرت بمنحنا مقاعد في الصف الأول المقابل مباشرة للشاطىء وعبرت عن سرورها بزيارتي وعند خروجنا سألت بحرص ما إذا كنت حظيت بوقت طيب. أستطيع أن أقول لطف العاملة لم يكن استثناء فطيلة الأسبوع الذي قضيته في اليونان والجميع يعاملني بلطف ، العاملين في المطاعم والمقاهي ، مقدمي الخدمة على الشواطىء، الباعة في المحلات، الشعب بشكل عام كلما خرجت بمفردي واحتجت لمساعدة أو ارشاد وسألت أحدهم حتى وإن لم يعرف الانجليزية فإنه يصطحبني لغايتي. بشكل شخصي لم أواجه سوء أو مضايقة. الحديث عن الشعب دون الحديث عن العائلة المستضيفة يعتبر جحود للنعمة، عائلة أولغا كانت المرادف لكلمات كثيرة كالحب والكرم واللطف ، جميعهم كانوا حريصين على أن أحظى بتجربة ثرية في اليونان ، جميعهم كانوا فرحين بالزيارة ، والدتها كانت المرشد المساعد، بقلب الأم كانت تتابع خطواتنا على قصتي في انستقرام لم يمنع حاجز اللغة من وصول مشاعرها لي عبر الرموز ، في ختام كل يوم كانت تتصل لتعلّق مع والد أولغا على جمال اليونان بعينيّ ومن خلال صوري على انستقرام وعن مدى سعادتهما لأن بلدهما يبدو هكذا من زاوية زائرة أجنبية. أخيراً، هل هناك جانب سيء أم ان صورة الشعب مشرقة تماماً؟ الإجابة كما في أي شعب في العالم هناك جانب مشرق و آخر مظلم لكن الحمدلله أني لم أتعرض للمظلم . حرصتنا والدة أولغا على أن لا أرتدى المجوهرات الباهظة الثمن أثناء التسكع في مناطق معينة من أثينا إذ أن هذا قد يعرضني للسرقة لكني أعتقد أن هذه الاحتمالية واردة في كل بلد ولأني لست أساساً من مرتدي المجوهرات الباهظة الثمن في السفر لم أشعر بأي مخاوف.

الراعي الرسمي لهذه الرحلة الصديقة اليونانية العظيمة أولغا

التكاليف

في كل رحلة أقول قولي هذا : التكاليف غالبا ستكون بيدك ، أنت من يجعلها عالية أو منخفظة أو متوسطة بخياراتك. في هذه الرحلة لا أستطيع أن أعطي تصور دقيق لأني سكنت وتنقلت مجانا عدا ليلتين قضيتها في فندق (أربع نجوم) في جزيرة ناكسوس كلفنا لشخصين 200يورو، أراه سعر ممتاز و لا تتفق معي أولغا! لم أستخدم المواصلات العامة سوا مرة في المترو لكن بشكل عام وعلى ذمة أولغا المواصلات العامة في أثينا جيدة. بالنسبة للأكل لم تتجاوز الوجبات طيلة رحلتي 20 يورو للشخص. في التنقل البحري تتفاوت الأسعار حسب الجزيرة التي تزورها لكنها غير مبالغ فيه وفي المتناول والخيارات منوعه مابين عبّارات سريعة و أخرى عادية و مالبين مقاعد اقتصادية ومميزة. بشكل عام ربما أنقل اجابة أولغا لي في الميزانية اليومية : 50 يورو ممتازة جداً.

الاسترخاء كفن يتقنه اليونانيون

قضيت اجازتي في اليونان برعاية أولغا وتحت مظلة شعارين: نسترخي من الاسترخاء ونتجهز ببطء ببطء. كلما تسائلت عن خطة اليوم أخبرتني أنها كالتالي: سنسترخي ونتناول القهوة ثم نذهب لنسترخي على الشاطى ونعود للسكن لنسترخي من الشاطىء ثم نستعد للخروج مساءً ولكن (تنبيه للشخص الحريص بداخلي) ببطء ببطء. في أول الأيام لم تستوعب اعداداتي أني لا يجب أن أقفز من السرير وأرتبه واغتسل واستبدل ملابس النوم وأعد القهوة واجلس على الصوفا لتناولها وكأني روبوت سريع ! يقتضي الروتين اليوناني أن استيقظ ببطى وأتأمل في فراشي كيف أن أيامي هنا وبصحبة أولغا سعيدة ثما ببطء أبدأ يومي وأذكر نفسي أننا سنحظى باليوم بكل تفاصيله كما يجب لكن ب(رواق) وسيحدث كل شيء على أقل من مهله. للأمانة لم أعتقد أن هذا التكنيك سينجح معي أنا القادمة من مدينة وعائلة أفرادها عنوان حياتهم (على صفيح ساخن) بتعبير شعبي أحسبه معروف (حارين) وحريصين.

ختاماً رحلة اليونان كانت (هايليت) الصيف ، عدت منها أذكر نفسي يومياً بقاعدتين لإدارة شؤون الحياة : الاسترخاء وببطء ببطء

يحدث في المرآة الخلفية!

تنبيه أول : هذا المشهد تم رصده من مرآة خلفية لسيارة تقف في الصف الأمامي عند إحدى اشارات الرياض وعليه قد يكون واقع حقيقي خاصة إذا أخذنا بشهادة المرايا الجانبية بأنها الوحيدة التي تبدو منها الصورة (غير حقيقية)!

لا تفلح الكمامة المصنوعة من قماش أسود والتي تغطي نصف وجه الراكبة في المقعد الأمامي في السيارة الخلفية في تغطية الغيظ المتّقد في عينيها! السائق بجانبها يكشف عن نفسه كمتهم أول في تعكير مزاجها و تلتصق التهمة به أكثر عندما ينطلق في أحاديث تبدو من حركة يديه و نظرات عينيه أنها أحاديث متطايرة لا معنى لها ولا تسير في وجهة معينة. يرفع يده اليمنى إلى الأعلى بشكل سريع ومبالغ فيه بالنسبة لسائق يقف أمام إشارة حمراء بينما يستدير الجزء العلوي من جسده ناحيتها، يبدو أنه يحكي لها عن مغامرة شاهد فيها بركاناً ثائراً تندفع حممه للأعلى دون أن يدرك أن بجانبه بركان خامد الله وحده يعلم في أي لحظة سيثور.  فمُه المزموم كمن ينفخ الهواء في تزامن مع يده المحلقة تجعل التنبؤات متفاوتة وغير مستقرة على رواية البركان الثائر خاصة إذا ما أُخذ بعين الاعتبار الصورة الظاهرة على شاشة الإعلانات التجارية المقابلة والتي تحمل قدر ضغط والآخر مجاناً وقد رُبط الاثنين بشريطة حمراء جُمعت أطرافها في المنتصف وعقدت على شكل وردة، ربما كان السائق يقص لصاحبته إحدى تجاربه الفاشلة مع (قدر الضغط) حين فتحه فانطلقت محتوياته باتجاه السقف! ستكون هذه القصة الأسوأ على الإطلاق التي يختارها شخص يحاول مساعدة شخص آخر في التنفيس عن غضبه المكتوم .

 بالاستسلام لتفسيرات أبسط وسيناريوهات أقل تعقيد لمرأة صامتة بجبين مقطب في المقعد الأمامي من سيارة صغيرة وسائق لا يكف عن الثرثرة بينما ترتفع يده في حماسة شديدة ويستدير جسمه باتجاه المرأة عن يمينه  فقد يكون فرط التوتر عبث بلغة الجسد لدى السائق لتصبح شاذة ولا تتناسب مع محتوى حديثه، فيرفع يده كبركان ثائر أو كغطاء لقدر ضغط منفجر بينما هو في الحقيقة  يتحدث عن ثناء مديره في العمل على آخر مشروع سلمه له أو ليتحدث عن اعجابه الشديد بمشروب اللاتيه العربي الغني بالهيل والذي اكتشفه مؤخراً  لدى مقهى (جافا) المجاور لعمله أو أي ثرثرة تافهة تحاول اصلاح ما فَسُد من المزاج وما كُسر من الخاطر..

كل حماسة السائق والمواقف التي يسردها لم تُصب هدفها في كسر الجليد وزعزعة صمت المرأة الغاضبة والمسح على خاطرها! يصمت لثانية ثم يلتفت ناحيتها  ويضحك بقوة مبالغ فيها يبدو هذه المرة أنه يجرب حيلة (الضحك عدوى) لكن مناعتها تبدو قوية ضد هذه النوع من العدوى. يعيد وجهة لموضعه الطبيعي للأمام وعينه على الإشارة التي يبدو أنها تتآمر مع رفيقته فتُطيل حمرَتها لتعذبه بمزيد من الصمت الذي لا يقطعه شيء سوى الأحاديث المرتبكة من طرف واحد.. يعيد وجهة باتجاهها وفي هذه المرة يستخدم فنية الأسئلة يبدو ذلك من نظرة عينيه المتسائلة وايماءات رأسه التي أخيراً قابلتها ايماءة واحدة سريعة من الطرف الآخر لتقول نعم دون تفاصيل وتقتل محاولة استدراج الصوت وتحتج على محاولات عودة الحياة لطبيعتها بالإكراه!

محاولة أخيرة يتجرد فيها من أسلحته ويواجهها أعزل من كل شيء إلا من نظرة ندم واعتذار صامتة تنزل معها اليد المرتفعة وتسكن الضحكة قبل أن تتحول الاشارة لخضراء مصحوبة بمنبهات السيارات خلفهم ولعنات السائقين.

تنبيه أخير: السيارة في الصف الأمامي عالقة عند الإشارة منذ سبع دقائق يتناوبها الضوء الأحمر والأخضر حتى وصلت لمكانها الحالي والأخير وعليه قد تكون مصابة بالصداع وتشوش الرؤية مما قد يجعل المشهد (غير حقيقي)!

أن تستضيف غريباً في منزلك

حضرت العام الماضي( مجلس سفر) في مساحة مكانة وهو عبارة عن تجمع شهري لمجموعة من الشباب المهتمين بالسفر. أثناء الحديث عن السفر ومغامراته جاء ذكر couchsurfing واستخدام بعض الحاضرين له عند السفروالمفاجأة بالنسبة لي حين ذكر أحدهم تجربة أحد الشباب في استضافة زائر أوروبي في منزله في السعودية من خلال الموقع. تكمن مفاجأتي في أني كنت أعتقد أن الموقع غير نشط في السعودية من ناحية الاستضافة.

لمن لا يعرف couchsurfing هو شبكة تواصل اجتماعي للمهتمين بالسفر. ارتبط اسمه غالباً بالسكن المجاني وهذا صحيح إذ تستطيع من خلاله الحصول على مستضيف يفتح لك باب بيته في الوجهة التي تقصدها ودون مقابل سوى اهتمامه بالإطلاع على ثقافات متنوعة وتكوين علاقات اجتماعية وهو إما مستخدم له ومستفيد منه فبالتالي هي عملية تبادلية أو ربما شخص شغوف بالآخر والانفتاح عليه لكن ظروفه لم تسمح له بالذهاب لهذا الآخر ففتح بيته له واحضر لبيته العالم الذي لم يستطع السفر إليه.

مفردة (الكنبة) في اسم الموقع يعني أن المستضيف سيفتح لك باب بيته سواء خلف الباب غرفة مستقلة لك أو مجرد سرير أو حتى كنبة في غرفة المعيشة. من المهم طبعاً أن تفرق بين الموقع وبين أماكن الإقامة على بوكينج وAirbnb ، ليس الفرق الوحيد أنك ستدفع مقابل في الخيارين الأخيرين إنما الفرق الأهم كما ذكرت إحدى المستخدمات (المستضيفات):” منزلي ليس فندق ولا نُزل تسجل الدخول له ثم الخروج منه مقابل المبيت وتنظيف غرفتك وإعداد طعامك” الكثير من المستضيفين يذكرون النقطة السابقة بالخط العريض للتأكيد على أن الاستضافة المجانية أكبر من مكان لوضع حقيبتك وأرض تنام عليها خلف باب مغلق.حين استضيفك مجاناً أتوقع أن نتشارك الأنشطة وأن نتبادل الأحاديث وأن نتعرف على ثقافاتنا المختلفة وأتوقع منك أن تعتني بنفسك وحاجاتك ولا تتوقع مني أن أتولى ذلك عنك كذلك لا تتوقع مني أن أرتبط معك وبك تماماً.

سجلت في الموقع منذ أكثر من ثلاث سنوات حين كانت ترادوني أمريكا الجنوبية عن نفسها، إذ بدأت البحث فيه عن مستضيفين في الدول التي أخطط لزيارتها. كنت أراه الوسيلة الأسرع للاطلاع على ثقافة بلد كأمريكا الجنوبية والوسيلة الاقتصادية لمبتعثة في ذلك الوقت ترغب في تغطية أكبر قدر من مدنها . خطة أمريكا الجنوبية لم تكتمل لكنني استمريت في استخدامه للتواصل مع المهتمين بالسفر. حتى الآن لم استخدمه في الحصول على سكن لكنني استخدمته في استضافة السياح هنا في الرياض فبمجرد فتح باب السياحة في السعودية وما إن بدأ اصدار التأشيرات السياحة حتي انهالت علي طلبات الاستضافة أو حتى الخروج لتناول القهوة أو تناول وجبة أو التجول في أي مكان في الرياض.

 أغلب طلبات الاستضافة رفضتها إذ لم تتفق مع الشروط التي حددتها للاستضافة وأهمها جنس الضيف (أنثى) والمدة لا تزيد عن ليلتين (خلال أيام الأسبوع). وافقت الشروط التي وضعتها أربع سائحات، استضفت اثنتين منهن واثنتين حالت كورونا بيني وبين استضافتهم.

فيما يلي سأحاول الإجابة على أكثر الأسئلة التي تلقيتها ممن أخبرتهم عن تجربتي وكذلك الأسئلة التي أعتقد أنها قد تدور في ذهن أحدهم.

هل أنا مجبرة على قبول أي طلب استضافة؟

مجرد تقديم أحدهم طلب استضافة لا يعني بالضرورة أن علي القبول بمعنى أدقق جيداً في التوصيات الموجودة عن الشخص في الموقع سواء التوصيات الشخصية التي كتبها أشخاص يعرفونه أو خرج معهم أو التوصيات التي كتبها مستخدمين استضافوه في بيوتهم أو ضيوف أقاموا عنده في منزله، أي توصية سلبية مهما كانت بسيطة كفيلة برفضي وللأمانة كذلك التوصيات القليلة قد لا تشجعني. إذا اعتمد بشكل كبير على التوصيات كماً ونوعاً وقبلها معلومات الشخص عمره ومهنته وتعليمه والأنشطة التي يحب ممارستها وطريقة كتابته وتعريفه بنفسه كذلك صوره هذا طبعاً مصحوب ببحثي عنه خارج الموقع: في الفيسبوك وعلى قوقل بشكل عام ولو كان صاحب مدونة أقرأ تدويناته (بالمناسبة اخوتي يسمونني كونان).

كيف تثقين بغريبة وتفتحين لها بيتك؟

أولاً، كما ذكرت أنا لا أقبل أي طلب إلا بعد التمحيص. أيضاً هناك حسيّ وهو ما أعول عليه كثيراً في هذه الحياة وبما إنه لم يخذلني حتى الآن فسأستمر في التعويل عليه حتى إشعار آخر، حسك سيخبرك إن كان هذا الشخص مريح أم لا.

ثانياً مكان إقامتي مزود بكاميرات مراقبة في كل مكان وحراس متوفرون ٢٤ ساعة كما يعتمد الدخول إلى البناية واستخدام مرافقها على نظام البصمة أي أن أي ضيف يحتاجني في دخوله وخروجه علاوة على أن نظام العزل في البناية لحسن الحظ يتيح للجميع سماع مايدور في شقتك دون عناء لذا عند أي طارئ لا سمح الله سيكون الجيران هنا (في شقتي)..

ثالثاً اعتمد في منزلي فلسفة التخفف لذا لا يوجد لدي الكثير من الأثاث والأجهزة  أواللوح والزينة  التي تغري بالسرقة، الموجود قطع معدودة عمرها بعد الاستخدام لا يساوي ذنب التفكير في سرقتها. أيضاً لا احتفظ بأي مبالغ في شقتي أو قطع ثمينة كل ما أملكه في منزلي قابل للتعويض وفقدانه لا يتسبب في حسرة لي وشقاء.

أخيراً الموضوع برمته يعتمد على شخصية الشخص، مرونته وانفتاحه وطريقة تعامله مع الأمور ونظرته لها.  أنا مرنة لكنني حذرة وفي الحقيقة لا أميل للشكوك بل آخذ الأمور على ظواهرها طالما جميع الإشارات حولها لا تثبت العكس وأعتقد أن هذه الصفة ضرورية لمن يستخدم مواقع مشابهة.

لكن الحذر واجب؟

 نعم واجب لكن ماحدود حذرك ؟ قد تكون حدود حذرك قائمة على التفكير في كل الاحتمالات السيئة فلن يقنعك كل ماذكرته وسيظل لديك احتمالات نسبة حدوثها ١٪ لكنها كفيلة بأن ترى التجربة غير آمنة وأحترم وجهة نظرك لكن عني تكفيني فكرة أن الضيفة لن تدفع تذكرة وتقطع الساعات الطويلة لتلحق بي سوء.

هل علي أن أجهز غرفة خاصة للضيوف؟

لا طبعاً .. ميزة الاستضافة أنها حسب ظروف المنزل وهو ماستذكره في صفحتك أي أنك ستصف المكان الذي ستستضيفهم فيه إن كان غرفة خاصة أو في نفس غرفتك أو على كنبة في صالتك. أنا استخدم غرفة المكتبة للاستضافة، ليس لدي سرير اضافي لذا أكتفي بفراش على الأرض. إحدى السيدات التي كان من المفترض أن استضيفها لليلة في ابريل كانت ستحضر بصحبة طفلين فاستئذنت أن تحضر لهما أكياس نوم. عندما سمعت أختي عنها اقترحت أن استضيفها في منزل العائلة حيث تتوفر العديد من الغرف المهيئة (الجينات وما أدراك ما الجينات ).

كيف تتم الاستضافة وأنا مشغول أو أعمل أو جدولي و ظروفي غير مناسبة؟

أكرر الاستضافة تتم وفق شروطك الخاصة التي حددتها على الموقع. مثلاً أنا لا استضيف في إجازة نهاية الأسبوع ولا استضيف أكثر من ليلتين كذلك حددت أني ربما استضيف بمعنى ليس من المؤكد أني سأقبل أي طلب (قد أرفض طلبات فقط لأني لا أرغب). في الفترات التي أعرف أني مرتبطها خلالها أعتذر عن استقبال الطلبات. بالنسبة للدوام ، الاستضافة لا تعني أن تأخذ اجازة من عملك، كنت أذهب لعملي وضيفاتي يذهبن لأنشطتهن وبعد عودتي للمنزل يعدن. في النهاية لا أحد سيجبرك على أي شيء أولاً وأخيراً أنت متطوع وأنت صاحب الكلمة الأولى والأخيرة.

هل سأنفق على ضيوفي وأتحمل مصاريفهم؟

ضحكت حين قرأت تعليقاً لأحد المغردين على تغريدة لي عن تجربتي مع استضافة أول ضيفة، يصف المغرد أمثالي ممن يستضيفون السياح الأجانب مجاناً فيما معناه بالغباء وبأننا سنتحمل كافة مصاريفهم، طعامهم ومواصلاتهم وأنشطتهم..الخ وأننا نظن أن هذا كرم بينما هم لا يفكرون سوى في السياحة على حسابنا ثم سيقومون بإنتقادنا كسعوديين ما إن يعودوا لبلدانهم!

لمن قد يفكر بنفس الطريقة أقول أو بالأصح أكرر المسألة خيارك الشخصي لم يجبرك ولن يجبرك أحد على فعل مالا ترغب في فعله وأعتقد كونك تستخدم الموقع هذا يعني أنك وصلت لدرجة من الوعي والانفتاح علي الآخر أعلى من أن تكون أحمق وقابل للاستغلال. عني شخصياً أعامل الاستضافة المجانية وكأني أشتري تجربة وخبرة لذا انتقي من تناسبني ميولهم واهتماماتهم وأعتقد أنهم سيضيفون لي فمثلا ضيفتي الأولى مدونة ومصورة والأخرى كاتبة ومحررة وكلتا الاثنتين لديهما خبرة حياتية مميزة بالنسبة لي وكنت أبحث عمن يملكها حتى يحدثني عنها وقد حصل فعلاً. غالباً من يزور السعودية يقضي فيها مالا يقل عن شهر متنقلاً بين مدنها، كيف يتنقل؟ عن طريق استئجار سيارة.. هل جميع المدن فيها من سيستضيف السائح مجانا؟ لا طبعا لذا يأتي وقد رتب حجوزات سكنه في عدد من المدن ما أريد قوله هو أن الفكرة ليست كما يراها البعض يأتي سائح أجنبي ليستمتع بالمجان لأن السعوديين كريمين وسذج. جميع الأنشطة التي مارستها مع الضيفتين كانت مجانية كالخروج للجري والتجول في الحي وأحد الأسواق القريبة وجولة في منطقة وسط البلد (سوق الزل والثميري وقصر الحكم) عندما خرجت مع ضيفتي الثانية للفطور دفعت هي كامل المبلغ ولم تقبل مناصفته معي كشكر على استضافتي لها أيضاً قدمت لي قلادة وأقراط من فينيسيا الوجهة التي كانت فيها قبل السعودية وهذا مايفترض منك (ذوقا) عند استخدام الموقع أن تحمل معك هدية بسيطة أو تذكار من بلدك لمستضيفك وأن تدفع ثمن إحدى الوجبات. ضيفتي الأخرى حين علمت أني أخطط لقضاء الصيف متجولة في أوروبا دعتني للإقامة في منزل والديها في بلجيكا .

 أليس هناك من يستغل الإقامة المجانية من الضيوف ؟

 طبعاً هناك من يسافر ليكون عالة على الآخرين لكن ليس كل سائح أومسافر بحقيبة ظهر يريد استغلال الآخرين ! حكت لي ضيفتي الثانية عن قصة صديقها الذي انتقل ليعمل في إحدى مدن الهند ولأنه كان يعاني من الوحدة بدأ في استضافة السياح عن طريق Couchsurfing. كان يقبل جميع طلبات الاستضافة من باب الحماس حتى انتهى منزله لوجهة للهيبيز الذين استوطنوه وعثوا فيه  لفترة طويلة قبل أن يعود له رشده ويقنن معايير الاستضافة. أيضاً لا أنسى إحدى طلبات الاستضافة التي وصلتني من (سعودية) ترغب في الإقامة عندي لمدة ثلاثة أشهر وهي المدة التي ستكون فيها في الرياض لظروف العمل،اعتذرت بأن  طلبها يتنافى مع معايير الاستضافة التي وضعتها وأن المدة التي ذكرتها هي إقامة طويلة تحولها لشريكة سكن وليست مجرد ضيفة الأمر الذي أثار غضبها فأرسلت لي : لماذا إذا أنت موجودة الموقع !

أكرر هي في النهاية شروطك فلا تنسى أنك المتحكم الأساسي في العملية وأنك ستقابل كافة الأشكال.

أخيراً، هل تصلح التجربة للجميع؟

أنت من تجيب على هدا السؤال بالنظر لخصائصك الشخصية وظروفك الاجتماعية. ليس الجميع من المرونة ليستقبل ويتعرف على الغرباء وهذا أمر عادي لا ينقص من شخصه شيء كذلك مجتمعنا يتصف بخصوصيته فمن الصعب على الكثير أن يفتح بابه ويشارك بيته وشيء من حياته مع غرباء. عني شخصياً وعن عائلتي بشكل عام نحب هذا النوع من التجارب، لدينا بعض الصور في منتصف الثمانينات لوالدي مع عدد من الضيوف الفرنسين في منزلنا يظهر فيها والدي بكل بهجة وهو يستعرض معهم بعض الأدوات الأثرية وفي صورة أخرى يساعدهم على ارتداءالملابس التقليدية.

ضيفتي مع البليلة في إحدى حدائق الحي

في كل مره أقول ستكون  التدوينة قصيرة اكتشف في نهايتها أنها طويلة جداً لذا أتمنى أنك وصلت إلى هنا عزيزي القارئ وأنت بكامل لياقتك وأتطلع أن تشاركني في التعليقات تجارب مماثلة خاصة أني أعرف أن هناك عدد من الأشخاص سبقوني لتجارب مشابهة..

جولة الحي في زمن الكورونا

الرياض- العقيق

23/03/2020

كل شيء يحدث للمرة الأولى؛ ٩٠٪ مِن سكان الحي يغسلون أحواشهم ويمتد كرم الغسيل للشارع فينظر كل واحد في عين جاره المقابل على طريقة (اليوم أنا أغسل وبكرا إنت) يبدو أن هناك اتفاقية غير مكتوبة وغير منطوقة بين السكان على إدارة العملية التنظيفية للطريق المشترك بين بيوتهم!

شاب عشريني في أحد شوارع الحي ينزلق بسيارته خارج المنزل عبر الكراج وينزل نافذته ليصيح بأخيه في الداخل ويلقي عليه أمر عسكري واجب التنفيذ “جب المعقم معك” أقسم أني صادقة وأن هذه العبارة سمعتها وكنت على بعد مترين من صاحبها ولم تكن حلماً أو خيالاً قصصي!

ابتسم ابتسامتي العريضة التي تكشف عن أسناني قبل أن تتحول الابتسامة لضحكة خفيفة أشكر غطاء الفم  الذي حرس الضحكة البلهاء من غضب المجتهدين المشمرين عن سواعدهم وكفاني عناء التبرير بأنها والله لم تكن سخرية ولا شماته وإنما هلع الأشياء التي تحدث لأول مره!

سنة ونصف وأنا لا أشاهد في شوارع الحي سوى السائقين غالباً أما اليوم فيقضي عدد من سكان الحي وقته في تنظيف المنزل والشارع. لاأعرف إن كانت تسلية وقضاء وقت فراغ أم هلع الجراثيم ووسواس التنظيف أم وسيلة لمكافحة القلق أم أن قانوناً صدر وفاتني ينص على أن على الأفراد غسل أحواشهم مره يومياً!

القطط أيضاً أخذت نصيبها من مسلسل (يحدث لأول مره) كانت في السابق تفرّ بمجرد اقتراب شخص منها أما الآن فالحي حرفياً لها، أمر من أمامها وخلفها وبجانبها تماماً دون أن تهتز لها شعرة! لم تكتفي بذلك بل أصبحت تجلس أمام باب البناية مباشرة وعلى جدرانها في أوقات حظر التجول وكأنها تمد لسانها لنا في محاولة لاستفزاز غيرتنا..

IMG_0645

الدانوب -سوبر ماركت الحي الذي يعرفني جيداً- بالأمس في تمام الساعة الخامسة مساءً تحول لساعة حشر أو هكذا خُيل لي حتى أني فقدت امتيازي وحفاوة الموظفين بي فلم ينتبه لدخولي أحد! الجميع الآن منشغل بتسيير الأفواج ومحاسبة أطنان المشتريات التي تئن عجلات العربات تحت ثقلها! أكياس (رز أبوكاس)  كانت بطل المشهد، تشرفت بلقائها محمولة بكل تقدير على ظهور العربات والحقيقة أني لم انتبه يوماً لوجودها في (الدانوب)..

هذا المشهد أصابني بنوبة ضحك جديدة وزاد هلعي! هل يستعد الجميع لحالة طوارىء ولم يخبرني أحد! هل يخطط الجميع للنجاة ويتركونني أشتري ما أشتريه عادة: توتست بر (مقاس صغير)، ٣حبات أفوكادو و ٥ حبات موز! هل سيركض الجميع بعربيته المحملة بخيرات الدانوب لمنزله ويقفل بابه ويتركونني دون خطة طوارئ!

أكد شكوكي ومخاوفي زوج يدير عربته لوجه زوجته ويسألها: “يكفي شهر؟” هذا النوع من الأسئلة غير موجود في برمجة ذهني أنا التي تقرر كل يوم ما الذي يحتاجه هذا اليوم من طعام وتخرج لشراء مكوناته! أنا التي سئمت ريم وهي تحاول لمدة سنة  إقناعي بأن في التسوق متسع لمضاعفة الكمية لحالات الطوارىء ولازالت أرفض أو بالأصح لا أعرف كيف! وددت التوجه إلى الزوجين وسؤالهم إن كان بإمكاني إلقاء نظرة على قائمتهم أو إن كان بإمكانهم تقديم النصائح لي فيما يجب علي أن اشتريه أو ربما أطلب منهم طمئنتي أن مايحصل خاص بالأزواج والعائلات ولا يعنيني!

 طابور المتسوقين الذي يمتد من المحاسب دون نهاية مرئية جعلني أشعر بالغضب أو ربما الإيثار  فتركت الدانوب والمحاسبين لمتسوقين أكثر هلعاً مني وخرجت..

خرجت راكضة لم أنتبه لذلك إلا في أحد شوارع الحي حين أصبحت المسافة أقل من متر بيني وبين مراهق يتخلص من مخاوفه أو يستغل ساعة ماقبل الحظر بالتفحيط! هيئته المتوترة حين رآني متجمدة يكشف عن سيناريو السرقة؛ سرقة سيارة والده المنهمك في غسيل الحوش.. تقول نورة وأنا أخبرها بالموقف أن هذه الفئة (المفحطين في زمن الكورونا) هم أكثر فئة تتعاطف معهم إذ يعكس هذا السلوك توترهم أما أنا لا أقول شيء وقد كنت جنباً لجنب مع سيارته المترنحة!

أكملت الركض وأنا أضحك من حشود الدانوب ومن (المفحط) المتوتر وأسير نحو بقالة منزوية في أحد شوارع الحي، بقالة بهوية سوبر ماركت ومحل خضار.. ابتسم بنشوة المنتصر وأنا أركض لها لأنها المكان الذي لا يعرفه الكثير وبالتالي سيكون لي وحدي. لن أخشى الازدحام وانعدام المسافة الاجتماعية والطابور الطويل لدى المحاسب ولن تزداد ضربات قلبي وتبدأ ساعة حظر التجول تحاصرني، سأتسوق بسرعة وخفة وأخرج راكضة قبل موعد الحظر..

أحلامي تبخرت بمجرد أن لمحت زبون في الخارج! زادت نبضات قلبي! ماذا يعني ذلك؟ هل هو من الهاربين من الدانوب؟ هل هو في الخارج حفظًا للمسافة؟ هل امتلئ المكان وفاض به؟ يدي على قلبي وأنا أطل برأسي خلف الرجل الواقف في الخارج وكانت الصدمة ؛ حتى محل البقالة يخترقه طابور طويل! هربت خالية اليدين للمره الثانية وبسرعة أكبر هذه المرة، أردت الوصول إلى خط النهاية قبل صافرة الحظر وعدت إلى شقتي دون توست ولا موز ولا أفوكادو!

المتعلمة educated  

أقرأ هذه الأيام المذكرات الشخصية للكاتبة والمؤرخة الأمريكية تارا ويستوفر وفي جولة الحي السابقة وتحديداً في الدانوب برز في مخيلتي منظر عائلة تارا خاضعة لأوامر الأب وتخزن بهلع أطناناً من حبات الخوخ في مرطبانات استعداداً ليوم عصيب (لم يأتي أبداً) تهاجمهم فيه الشرطة الإتحادية في معتزلهم في جبل بيكس باك. 

 

*الحقيقة أن هذه الجولة كان مكانها انستقرام لولا أنه أبى أن يقبل هذه الثرثرة الطويلة وتوقف عند منتصفها..